أنيس نقاش *
لم يكن الرئيس فؤاد السنيورة دقيقاً جداً عندما دعا خصومه من الداعين لذهاب الحكومة «بأن يخيطوا بغير هالمسلة» لأن في ذلك نصف حقيقة ونصف خطأ وإليكم القصة.
يذكر اللبنانيون أنه مباشرة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وكان جسده ما زال في المستشفى، هتفت الجماهير المحتشدة هناك بحياة الشيخ بهاء الحريري، على أنه بحسب العادات الشرقية واللبنانية سيكون الوريث السياسي الشرعي لأبيه وهو الولد البكر. ولم ينقطع هذا الهتاف وذاك الأمل إلا عندما انتهت المراسم وذهبت العائلة الى المملكة السعودية وكانت الصورة الشهيرة لأبناء الحريري مجتمعين بلباس المواطنين السعوديين، وهو الحطة والعقال، وهم يقبّلون يد الملك فهد ويقومون بواجب التعزية لخادم الحرمين الشريفين ويتقبّلونها بدورهم منه، فهو من البيت وهم أبناء المملكة. هذه الصورة الشهيرة التي غابت بسرعة من التداول فهمها المراقبون السياسيون على أن المملكة قد قررت سحب ظاهرة الحريري ومن يمكن أن يخلفه من التداول السياسي في لبنان. وقيل يومها إن النصيحة كانت بالابتعاد عن السياسة لأن المعادلات الإقليمية التي سمحت للرئيس الحريري بلعب الأدوار التي لعبها على مدار السنين التي سبقت استشهاده قد تغيّرت.
فجأة حصل تبدّل في الموقف وأُعلن أن العائلة قد اختارت سعد الحريري ليتابع مسيرة والده، ولن ندخل هنا في سجال لتقويم حصة العائلة في الاختيار وحصة المسؤولين السعوديين في التعيين.
إلا أن ما حصل بين الصورة وتوقيتها وإعادة الدور لعائلة الحريري هو ما يهمنا لأن ذلك له علاقة بما حصل لاحقاً وأسّس لمرحلة سياسية جديدة في لبنانحقيقة ما حصل أن القوى الإقليمية والدولية المتمثلة بفرنسا والمملكة العربية السعودية وإيران ارتأت خلال سفر الرئيس خاتمي الى باريس وحضور الوزير سعود الفيصل صدفة في ذلك الوقت في العاصمة الفرنسية وبالطبع المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا يبحثون مع المسؤولين السعوديين صحة أو خطأ سحب ظاهرة الحريري من التداول، كل هؤلاء مجتمعين وجدوا أنه من الأصلح استكمال ما كان قائماً من تفاهم بين القوى السياسية في لبنان وخاصة بين حزب الله والرئيس الحريري الراحل للحفاظ على أمن البلد والوحدة الوطنية فيه والاستمرار في العملية الديموقراطية التي كانت الانتخابات النيابية أحد أهم عناوينها وذلك لمصلحة البلد ولمصلحة كل الفرقاء الذين التأم شملهم في باريس التي وضعت هذه المعادلة التي أدت للتفاهم الرباعي في ما بعد.
وكان المشهد سريالياً حقاً بمشاهدة السفير الايراني المعتمد في باريس في حينه، صادق خرازي، وهو يجول في بيروت محاطاً بأمن السفارة الفرنسية وسيارات السفارة الفرنسية وموظفين من الرئاسة الفرنسية ليجول في جنح الظلام على كل الفعاليات الدينية والسياسية المعنية لكي تسير في هذا الاتفاق، وكان الوزير كمال خرازي يزور العاصمة دمشق للتشاور مع الرئيس الأسد في اسم رئيس الوزراء الذي يمكن أن ينال ثقة الجميع من أجل إجراء الانتخابات وكان الرئيس نجيب ميقاتي الأوفر حظاً.
بقية القصة يعرفها اللبنانيون، من خلال التحالف الرباعي الذي ترجم هذه المعادلة الاقليمية الدولية التي وافقت عليها القوى اللبنانية المعنية، وإلى أي مدى كان لهؤلاء الفرقاء قدرة القبول أو الرفض بنسب مختلفة فهذا أمر آخر، إلا أن الانتخابات أدت الى وصول أكثرية من هذا التحالف الرباعي الذي كان من المفروض أن يقود البلد الى شاطئ الأمان.
فنتيجة هذه الانتخابات التي جاءت نتيجة التفاهم الدولي والاقليمي والمحلي ولكي يرضى الجميع، أوصلت الرئيس السنيورة الى سدة رئاسة الحكومة الراهنة وهي المسلّة التي خيطت بها هذه المعادلة. هنا يكون الرئيس السنيورة العارف بهذه التفاصيل والأمور محقاً عندما يقول لقوى محلية تريد تغيير الحكومة «خيطوا بغير هالمسلة»، لأن المسلة الداخلية لوحدها لا تكفي في لبنان للإتيان بحكومة أو الذهاب بحكومة.
المشكلة هو ما حصل بعد ذلك. بعض القوى التي ارتأت أن من المصلحة تركيب هذه المعادلة للوصول بالانتخابات الى نهايتها والوصول الى الندوة النيابية بأكثرية انقلبت على عقبيها وعادت الى سياسات محورية تخالف المحور الذي سمح لها بإجراء الانتخابات أولاً، وبالوصول الى أكثرية ما ثانياً. واستمرت النزوات بناءً على «أجندات» مسبقة الترتيب تارة لتأزيم الأوضاع مع سوريا وتارة لمحاصرة المقاومة وسلاحها. واحتاجت الى الكثير من التأنيب من المملكة السعودية لكي تعود وتلتزم ما تم الاتفاق عليه في باريس ولكن، كما يبدو من المعلومات المتوافرة، باريس واستطراداً واشنطن كانتا تغريان الفرقاء القابلة لأدوار كهذه بأن يذهبوا في اتجاهات أخرى، والقيّمين على الأمور في المملكة لم يكن أمرهم موحداً ولا واحداً.
حصل في هذه الفترة ما لم يكن في الحسبان، وهو انتصار حماس في فلسطين، وحصل أن استوعب حزب الله كل عمليات الالتفاف والمناورات الخلفية لإضعافه، بل على العكس من ذلك ظهرت حماس قوة شرعية ومقاومة في فلسطين، وظهر حزب الله أيضاً بهذه الصورة في لبنان، وفي هذا منافسة لا تقبلها بعض النظم العربية التي كانت تخشى تعاظم ظاهرة نمو احتمالات التزاوج بين القوى الاسلامية والمقاومة والشرعيات المنتخبة، وبالطبع لم يكن هناك حاجة إلى تحريض الصهاينة والولايات المتحدة على مثل هذا الصعود ومثل هذه الظواهر، وطفح الكيل عندما استطاع حزب الله من خلال طاولة الحوار استيعاب كل الهجوم المضاد وتهميش دور القوى التي كانت تلعب اللعبة الخلفية للإدارة الأميركية والرئاسة الفرنسية، ولم تستطع حماس أن تبقى في الحكم أكثر مما كان متوقعاً فحسب، إنما اتجهت نحو التصعيد العسكري وخطف الجندي الاسرائيلي وخاصة أنها تمردت على نظام عربي كان دائماً يمنّي نفسه بتأدية أدوار الوسيط بين العرب واسرائيل أو العرب وأميركا واعتبر ذلك مروقاً كبيراً على الدور المناط به وتهميشاً لا يحتمله. ولأن النظام العربي لا يقبل هزيمة على أيدي «الصغار» كما يصفهم، فما كان منه إلا أن كبّر الحجر واتهم محوراً ايرانياً سورياً بإفشاله.
على المقلب الآخر بين ضفتي الخليج كان هناك حوار جدي يجري بين المملكة السعودية وايران، عنوانه الاستمرار بما تم الاتفاق عليه في باريس، لجهة عدم التعرض لسوريا التي تعتبر خطاً أحمر، وعدم التلاعب بالمشاعر المذهبية لأن كل البيوت من زجاج ولا أحد ينفذ من هذه اللعبة، الى أن وصلت المباحثات على أثر الهزائم الأميركية الواضحة في العراق وظهور استراتيجيا الخروج منه بأفضل الشروط والقناعة بأن فراغاً استراتيجياً سيحدث، من الأفضل أن يتم التفاهم إقليمياً على ملئه، حتى وصلت التفاهمات بين طرفي الخليج على أربعة ملفات هي التالية:
ــ الملف النووي السلمي الايراني حق لإيران ولا داعي لتخوّف دول الخليج منه، والمملكة تدعم المساعي السياسية الايرانية في هذا الخصوص.
ــ الملف الثاني عن العراق وضرورة دعم العملية السياسية فيه والقبول بالنتائج التي أفرزته، وتُوّج ذلك بزيارة المالكي للمملكة السعودية.
ــ الملف الثالث يتعلق بفلسطين وضرورة دعم صمودها وخيارات الشعب الفلسطيني.
ــ الملف الرابع يتعلق بلبنان وضرورة الحفاظ على المعادلة القائمة من التفاهم ودعم المقاومة.
فجأة وبعد انقلاب مزاج النظام العربي، بفشله في الوساطة بين العرب واسرائيل وبين العرب وأميركا، وبعد ما شعر به من تهميش أدى الى تحريض الآخرين والالتقاء مع الأردن المنتظر بفارغ الصبر انقلاب الموقف العربي تجاه التحالف مع اسرائيل والولايات المتحدة، كان تشكُّل الجبهة الجديدة من النظم العربية التي التقت مع الشهوات الاسرائيلية الأميركية في ضرب المقاومات في المنطقة والخروج بشرق أوسط جديد.
تأكد الانقلاب في جلسة العتاب بين المبعوث الايراني، السيد لاريجاني والملك عبدالله، عندما تبين أن نقطتين من التفاهم قد سقطتا وهي نقطة فلسطين ولبنان عندما أتى الجواب: إن هذه ملفات عربية لا علاقة لإيران بها، أما الملف العراقي فنحن نفهم أن لكم حدوداً مع العراق ولكم علاقات خاصة، والملف النووي هو ملفكم لن نعارضكم فيه.
على خلفية هذا الانقلاب في المواقف جرى العدوان على لبنان وأدى الى ما لا تشتهي سفن المعسكر الهجين الذي يجمع بين بعض العرب واسرائيل والولايات المتحدة في معسكر، وبين المقاومات اللبنانية والفلسطينية ومعها سوريا وايران، بقدر ما، وقطر بقدر أقل، ولكن لا يقل إيجابية لمصلحة هذا المعسكر.
لم يفت سوريا ولا ايران معاتبة الأطراف العربية، إن كان في العلن كما فعل الرئيس بشار الأسد أو بالسر كما فعلت ايران، لمعرفة أسباب الانقلاب على ما اتفق عليه وعلى ما كان يعرف بالمسلمات، والأهم الاستفهام عن المستقبل، في ضوء انتصار المقاومة في لبنان، عبر طرح السؤال: إلى أين تتجه مواقف هذه الدول العربية؟؟؟
حتى الآن لم تحسم الأجوبة والبعض طالب بوقت لدراسة المستجدات والبعض الآخر وعد بالخير مستقبلاً من دون قطع الشك باليقين.
الرئيس بري العارف بكل هذه الأمور والمدرك لأبعاد اللعبة لم ينسَ أن يدعو، في خطابه في صور، الدول العربية من دون أن يسميها إلى تطبيع العلاقات مع ايران، وفي ما بينها أيضاً، ذلك أن في هذا التطبيع نجاة للبنان. وفي غير ذلك ذهاب في اتجاه المجهول. وهنا سر هذه الدعوة، في ما سبق لنا أن سردناه وفي ما ننتظر من أجوبة.
وبانتظار الردود الواضحة ننصح الرئيس السنيورة بمراقبة ما يجري هنا بالذات وداخل هذه المعادلة، فهي التي أتت به الى رئاسة الوزراء بسبب تفاهمها، وهي التي ستذهب به الى المجهول إن هي لم تتفاهم.
تبحثون عن مسلّة فاعلة يا رفاق؟؟ إنها هنا في قلب هذه المعادلة، وغداً لناظره لقريب.
* منسق شبكة الأمان للدراسات الاستراتيجية.