منير شفيق *
البعض تصوّر أن في مقدور الإدارة الأميركية أن تحقق، من خلال الضغوط السياسية والابتزاز والمساومات ومجلس الأمن، للعدوان الإسرائيلي ما لم يستطع تحقيقه في الميدان العسكري. وقد تدعّم هذا التصوّر عبر المشروع الأميركي ــ الفرنسي الأول. ولكن سرعان ما تهاوى هذا المشروع أمام الرفض اللبناني والعربي له. وبالطبع ما كان ليفعل لو لم تكن أرجله خشبية قامت على أرض هزيمة عسكرية واستنكار سياسي عربي وإسلامي وعالمي، شمل أول ما شمل، بدرجة عالية من الغضب، الشعوب والرأي العام ثم أغلب الحكومات.
وجاء القرار 1701 على أنقاضه ليسقط الاستناد إلى الفصل السابع. ويلحق القوات الدولية المقترحة بقوات «اليونيفيل»، وليأخذ ببعض المطالب اللبنانية ــ العربية، مع محاولة المحافظة على ماء الوجه للعدوان الإسرائيلي، فكان غامضاً، غير محدّد، في عدد من توجّهاته، وقابلاً للتأويلات ومفتوحاً على أكثر من احتمال في مآلاته الواقعية. ولكن يمكن القول في المحصّلة، على رغم التحفّظات اللبنانية والعربية على عدد من بنوده، إن أميركا وإسرائيل ليستا راضيتين عنه، ولم يأتِ كما تريدان.
لقد شهدت المرحلة الممتدة من صدوره ووقف ما أسماه العمليات العسكرية إلى اليوم، أكثر من تقلّب في مساره. ففي البداية بدت فرنسا متحمّسة لمشاركة فعالة في اليونيفيل وقيادتها، ثم تراجعت حتى عن المشاركة في أكثر من مئتي جندي، ودار في الخفاء وفي التصريحات صراع شبه معلن على فهم كل دولة للقرار 1701، ولوظيفة اليونيفيل ومهماتها. وقام الجيش الإسرائيلي بعدّة خروق جعلت الوضع هشاً ينذر باندلاع المواجهات من جديد.
وتحرّك المندوب الأميركي (الإسرائيلي) جون بولتون لاستصدار قرار جديد من مجلس الأمن يوسّع فيه مهمات اليونيفيل، كما لو كان مرجعها الفصل السابع، سواء أكان بتولّي مسؤولية نزع سلاح حزب الله، أم بالسيطرة على كل المعابر الجوية والبحرية والبرية، وخصوصاً الحدود اللبنانية ــ السورية. ولكن هذا المسعى انفجر على قاعدته. وبدا لاعباً خارج موازين القوى العسكرية والسياسية، وغير قادر حتى على إقناع المندوب الفرنسي به، كما فعل أول مرّة.
وهكذا راحت أميركا (وإسرائيل معها بالضرورة) تنتقل من فشل سياسي إلى آخر حتى تـُوّج هذا المسار مع نهاية الأسبوع الماضي، بعودة فرنسا للمشاركة بألفي جندي وقيادة اليونيفيل، وتولّي أوروبا الدور القيادي في موضوع القرار 1701. وكُلّف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بأن يؤكد أن القرار 1701 لا يتضمن تكليف قوات اليونيفيل نزع سلاح حزب الله، أو الانتشار على الحدود اللبنانية ــ السورية، وربط مهامها بما تطلبه الحكومة اللبنانية منها (حزب الله جزء منها ومن قرارها الجماعي).
وبـهذا يكون اتجاه تطبيق القرار 1701 قد ابتعد كثيراً عن التوجهات الأميركية الإسرائيلية، بل يمكن القول إنه ألحق الفشل العسكري الإسرائيلي الأميركي بفشل سياسي كذلك. ومن ثمّ لا عجب إذا ما تفاقمت الأزمة الداخلية الإسرائيلية والأزمة الداخلية الأميركية (وإن كانت وراء الكواليس حتى الآن).
لم تقتصر هذه الأزمة الأميركية ــ الإسرائيلية على الفشل العسكري ــ السياسي في لبنان، وإنما امتدّت لتتفاقم أكثر بعد الرد الإيراني على عرض الدول الست (أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين)، إذ لم تقبل بشرط وقف التخصيب، وتقدّمت بجواب موسّع ومرن ومعقد، ومن دون أن يغلق الباب أو يفتحه، مستدرجةً المعنيين لمفاوضات جديدة، مع استمرارها بالتخصيب، والكشف عن إنجاز علمي إيراني مهم على هذا الدرب: افتتاح مجمّع إنتاج الماء الثقيل في آراك.
صحيح أن الرد الإيراني لم تقبله ألمانيا وفرنسا ولم يُعجب روسيا أو الصين، لكن هذه الدول، في الآن نفسه، لم توافق أميركا على استصدار قرار عقوبات من مجلس الأمن نتيجة عدم الرضوخ الإيراني لشرط وقف التخصيب، ودعت إلى جولة جديدة من «الضغوط» الديبلوماسية، الأمر الذي سجّل حتى الآن فشلاً آخر للسياسات الأميركية.
فإدارة بوش الآن في أزمة داخلية وراء الكواليس لتقرّر أحد خيارات ثلاثة: إما القبول بإعطاء فرصة أخرى للديبلوماسية مخليةً الساحة للآخرين وإما محاولة دفع أثمان غالية للدول المعنية مقابل قرار عقوبات جزئي ومتدرّج أو إنذار ثان وإما العودة إلى القرار العسكري المنفرد مع من يرغب في المشاركة، كما حدث مع العراق.
الخيار الثالث يرجّحه القرار الإسرائيلي بتعيين قائد عسكري لإدارة الحرب ضد إيران ما يعبـّر عن تيار الخيار العسكري الحاسم داخل الإدارة الأميركية، لكن الإقدام على هذا القرار المتخذ أصلاً والذي كان وراء الحرب الشاملة التي شُنّت على لبنان قد يُحدث خضّة داخلية أميركية، وفي الإدارة نفسها، لأن المخاطر بعد التجربة اللبنانية أصبحت أعلى، ولأن الموقف السياسي الأميركي الإسرائيلي غدا أضعف أمام الرأي العام الأميركي ــ الأوروبي، فضلاً عن الشكوك في إمكان نجاحه وتحقيق هدفه.
لكن مع كل هذه الاعتبارات، ولأن التسليم بحق إيران في امتلاك القدرة النووية ولو في الحدود السلمية، مع أشدّ مراقبة، غير مقبول، بإطلاق، أميركياً وإسرائيلياً، ولأن الأزمة المتولّدة عن الفشل تلو الفشل حينما تـُمنى بها قوّة كبرى، متغطرسة، متطرفة، لها مطامع غير محدودة، تكون في الغالب دافعاً للحسابات الخاطئة، ولارتكاب المغامرات، فإن قرار العدوان العسكري الأميركي ــ الإسرائيلي على إيران يظل على رأس الأجندة ويبقي المنطقة كلها في دائرة الخطر الشديد ويخضع السياسات الأميركية له.
على أن ما يجب التأكد منه الآن هو أن أميركا في وضع مزرٍ للغاية.
* مفكر فلسطيني