عبد الإله بلقزيز *
إن أخذنا بهذه القاعدة التي تقول إن المقياس الذي يُقاس به النصر والهزيمة في أية حرب هو مدى ما حققه أو فشل في تحقيقه من أهداف، هذا الطرف أو ذاك من الفريقين المتحاربين، ووضعنا حصيلة الأداء الاسرائيلي تحت الضوء الكاشف لهذه القاعدة، فسيكون في إمكاننا أن ننتهي الى الاستنتاج ــ بقدر ما من اليقين ــ أن الحرب الاسرائيلية على لبنان لم تصب قليل حظ من النجاح في تحقيق أهدافها حتى لا نقول إنها حصدت فشلاً ذريعاً ما عرفت له نظيراً في المواجهات العسكرية السابقة مع العرب. وفي حوزتنا أكثر من قرينة على صحة هذا الاستنتاج.
أول أدلتنا على ذلك ما نلحظه من فجوة واسعة بين الأهداف التي أطلقها قادة الكيان الصهيوني، غب إعلانهم الحرب، عنواناً لحملتهم العسكرية الشاملة على لبنان وسقفاً سياسياً لمطالبهم فيها من جهة، وما وسعهم أن يحصلوا عليه من نتائج مادية من تلك الحرب من جهة أخرى. لقد شددت إعلانات اسرائيل، منذ اجتماع حكومتها في اليوم الثاني عشر من تموز 2006 غداة أسر الجنديين الصهيونيين واتخاذها قرار الحرب، على أن أهداف عمليتها العسكرية في لبنان هي: استعادة الجنديين الأسيرين، وتدمير القدرة العسكرية للمقاومة وخاصة قدرتها الصاروخية التي تهدد العمق الاسرائيلي، ثم فرض تطبيق القرار 1559 ونزع سلاح «حزب الله». وتعاقبت تصريحات أولمرت وبيريز وبيريتس وحالوتس ــ خلال الأيام الأولى للحرب ــ للإفصاح عن هذه الأهداف متفرقة ومجتمعة، صريحة في الأغلب الأعم منها ومضمرة في البعض القليل من الأحيان. وجاراتها في ذلك تصريحات قادة المعارضة اليمينية والصحف ووسائل الإعلام. كانت الأهداف الاسرائيلية القصوى حينها مدفوعة بشعور القوة الخارقة لدى قادة اسرائيل، سياسيين وعسكريين. كانت شديد الانشداد الى فرضية تذهب الى حسبان لبنان ساحة مفتوحة أمام نزهات عسكرية اسرائيلية لن يكلفها تحقيق أهدافها ثمناً قتالياً وبشرياً كبيراً.
مع اندلاع الحرب وتوالي فصولها، وتبيّن الحدود المتواضعة للآلة العسكرية الاسرائيلية في مواجهة صمود المقاومة واقتدارها في الرد الصارخي على العدوان في العمق الصهيوني، دخلت أهداف الحرب الاسرائيلية على لبنان مرحلة عدّ تراجعي تنازلت فيه عن تطلّعاتها العليا والقصية الى حدود بدت أكثر تواضعاً و«واقعية» من ذي قبل. وفي سياق ذلك التراجع، سكتت تماماً عن مطلب استعادة الأسيرين من دون قيد أو شرط، بل خرج أمرهما من التداول السياسي، واستعيض عن هدف تدمير البنية التحتية العسكرية لـ«حزب الله» بهدف آخر هو إضعافها وتقليصها والحد من قدرتها الردعية. أما نزع سلاح الحزب فأخلى المجال أمام هدف أقل تواضعاً: إبعاد سلاحه الى ما وراء نهر الليطاني شمالاً، أي الى ما بعد عشرين كيلومتراً ــ في أبعد نقطة امتداد بري ــ عن الحدود مع فلسطين المحتلة.
لم يكن هذا التناقص المتزايد في منسوب الأهداف الاسرائيلية من الحرب، وتراجعها الى حدود أكثر تواضعاً، إلا ثمرة موضوعية لفعل مقاومة ناجح أدّاه مقاتلو «حزب الله» على جبهة المواجهة العسكرية، وفرض على العدو إدراك الحقيقة المرّة: استحالة إلحاق هزيمة عسكرية بالمقاومة تفتح الطريق أمام إحراز انتصار سياسي تفرض فيه اسرائيل شروطها على لبنان والمقاومة في الوقت نفسه.
وإذا كان عدم التناسب هذا بين الأهداف السياسية للعدوان ــ وهو كبير ــ ونتائجه العسكرية ــ وهي متواضعة ــ يحمل على القول بأن العدوان الاسرائيلي تعرّض لنكسة حادة في لبنان، فإن في التفاعلات السياسية البعيدة المدى التي أطلقتها نتائج الحرب في الداخل الاسرائيلي ما يقيم دليلاً إضافياً على تلك النكسة. لنطالع سريعاً بعض أهم تلك التفاعلات ودلالاتها.
نقد المؤسسة العسكرية كان أول وأبرز تلك التفاعلات على الإطلاق. وأهمية هذا النقد تأتي من أن مؤسسة الجيش ظلت على الدوام خطاً أحمر في الحياة السياسية الاسرائيلية، ومحرّماً من محرماتها، وممتنعةً عن أية مساءلة. وإذا كان من المفهوم تماماً أن يتمتع هذا الجيش بحرمة سياسية فيرتفع عن أي جدل داخلي بسبب فتوحاته العسكرية وتنزّله منزلة العمود الفقري للدولة والمجتمع في اسرائيل، فإن فشله في إنجاز أي شيء ذي بال في مواجهة المقاومة الاسلامية في لبنان أفقده هيبته، ورفع عنه هالته الأسطورية واطمئنان المجتمع الاسرائيلي الى قدرته، وفتح طوراً جديداً من أطوار العلاقة العمومية به هو طور المحاسبة. بدا المجتمع الاسرائيلي مستعداً، أكثر من أي وقت مضى، لتعريض أسطورته العسكرية لأسئلة واقعية دقيقة تطال كل شيء: كفاءة القيادة العسكرية، وجاهة الخطط الحربية، أهلية الجيش للقتال، قدراته الاستخبارية... الخ. في المقابل، كان الشعور الاسرائيلي بقوة المقاومة (و«حزب الله») وقدراتها القتالية وكفاءة رجالها يتزايد ليرتفع الى مستوى الاعتراف بنجاحها في إحراز نصر.
في الأثناء، كان تعقّد مواز لأداء المؤسسة السياسية (حكومة أولمرت على وجه التحديد) يتسع نطاقاً فيخرج من الدائرة الضيقة (المعارضة اليمينية والصحافة) الى الرأي العام، ليضع توازنات في القوى جديدة. تناول النقد مستويات متعددة: سوء الأداء السياسي، التخبّط في اتخاذ القرارات، التردد غير المحسوب في المبادرات، توريط الجيش في مغامرة غير مأمونة النتائج، الاستتباع والذيلية للجنرالات، قلة الدراية بالشؤون الحربية، التبعية السياسية للقرار الأميركي... الخ. والنتيجة أن النخبة الحاكمة في اسرائيل ــ بحزبيها الرئيسين: «كاديما» و«العمل» ــ دفعت بذلك الفشل كله ثمناً من شعبيتها وتمثيليتها على نحو أطاح بهما تماماً، كما تكشف عن ذلك نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، وجعلت الطريق بذلك سالكاً أمام عودة سهلة لقوى اليمين المتطرف الى السلطة في الدولة العبرية المحمولة على صهوة فكرة الانتقام لإسرائيل مما لحقها من عار الهزيمة.
ولم تلبث اسرائيل ــ في مؤشر ثالث إلى هزيمتها ــ أن اعترفت، بلسان أكثر من مسؤول من قادتها، أن الإدارة الأميركية هي من تدخّل لإنقاذها في مجلس الأمن حينما تفاقم إخفاقها العسكري وتبيّن عجزها التام عن إحداث أي اختراق جدّي في الجدار الدفاعي للمقاومة في معارك الجنوب اللبناني. ولا يناظر هذا الاعتراف في أهميته وقيمته إلا الاعتراف بأن التدخّل السياسي الأميركي في مجلس الأمن أعطى اسرائيل سياسياً ما لم تقو على الحصول عليه عسكرياً.
* أستاذ جامعي ــ المغرب