روجيه نبعة *
ان «انهيار» الباب العالي في العام 1923، الذي أعادته نكبة فلسطين في العام 1948، أي بعد 25 عاماً إلى الأذهان، كان من شأنه أن يفتح أبواب المحن الدائمة أمام شعوب الأقطار العربية للسلطنة العثمانية. لقد كان الأمر يشبه هبوط الليل، ففي البداية انهارت «وحدة» السلطنة العثمانية، ومن بعدها وحدة أرض الإسلام، ما يعني انهيار وحدة الإسلام نفسه. إنها الوحدة.. الراسخة عميقاً في التاريخ! إنها الوحدة.. التي أرادها الله من أجل تحقيق وعده منذ فجر التاريخ، بولادة الدين الإسلامي الذي سوف يفتح العالم. تلك الوحدة.. التي استمرت ما يقارب 1300 عام (1633 ـ 1923) أي منذ القرن السابع حتى القرن العشرين)، كانت سمة العالم الاسلامي رغم تكاثر الانشقاقات داخلها.
لقد طغى على المرحلة التالية لهذه الخسارة التي تمظهرت لاحقاً في حالة من «البلقنة»، نوع من «عيب الوحدة» لدى شعوب هذه المنطقة، إنه عيب يطال الروابط بين الناس والأشياء في هذه المنطقة، الأمر الذي يعني البحث عن رابط ما، لإعادة رسم تاريخ هذا العالم الذي فقد بريقه وإعادة صياغة تاريخ شعوب هذه المنطقة.
لقد أغرق انهيار السلطنة العثمانية شعوب هذه المنطقة في الظلمة، وعندها بدأ زمن المحن! فالرمزية السياسية في هذه البقعة من العالم لا يمكن فهمها إلا على أنها محاولة للخروج من فاقة هذا العصر: هي حالة من «الممانعة» الرافضة لزوال الوحدة، والسعي لإعادة تكريسها. فالدعوة إلى الوحدة تنبع من عقيدة تعود فعاليتها ـ أي قدرتها على «الشحن» والإقناع ـ لا إلى نجاحها في التكيّف مع واقع الأحداث فحسب بل لاستنادها إلى قوة «الرغبة المتجذرة» التي تجلّت بداية في «الوحدة العربية» (1940 ـ 1979)، وقد تتجلى يوماً، في حال تجاوزت الأمة الفشل، في «وحدة الإسلام» أو المسلمين (1978/...). ولكن من الأفضل ألّا نستبق الأمور.
مصير مشترك.. أقدار متفرّقة
إذاً، هناك في التاريخ الحديث للشرق الأدنى ـ الأوسط، الذي انطلق تحديداً مع زوال الوحدة، أربعة زعماء فقط هم جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، الخميني و.. حسن نصر الله، قد حظي كل منهم بتأييد شعبي كبير تخطى نطاقهم الجغرافي الطبيعي وحدودهم الوطنية ليلهموا شعوب المنطقة ويتحوّلوا إلى رموز لها.
فرادة وتمايز حياة كل من هؤلاء الزعماء حفزا البعض للعودة إلى ماكس ويبر لمحاولة فهم الظاهرة التي شكلوها. فهذا الرجل يدعو إلى دراسة شخصية الزعماء من أجل إدراك ما يجمع بين «شخصياتهم» وما يميزهم عن الآخرين. ولكن يبدو لي، أن التشديد على خصوصية شخصيات هؤلاء الزعماء (الكاريزما التي يتمتعون بها) يعني «شخصنة» التفاصيل، ما يجعل الدراسة غير كافية، وذلك لأن الاكتفاء بهذا النوع من التحليل من شأنه فصل هؤلاء الزعماء عن تاريخ شعوب المنطقة، ولن يساهم ذلك سوى في إفقار القراءة بأكملها وتجريدها من أي أساس تاريخي قد يشكل المادة والنسيج للمغزى الذي تبتغيه.
ولكن برأينا، لا بد من أن نغيّر وجهة السؤال وننقل التساؤل حول «شخصية» و «كاريزما» كل من هؤلاء الزعماء، إلى الطرف الآخر من العلاقة: أي إلى «القاعدة الشعبية» لأنها «الطرف المتلقّي». فإن أي عودة إلى التاريخ تفرض أساساً البحث في العلاقة التاريخية بين هذه الشعوب وهؤلاء الزعماء. وبكلام أكثر دقة، يجب تحديد ما كانت تتوقعه الجماهير من هؤلاء الزعماء كي يتم «قبولهم» رموزاً لشعوبهم، ويجب أيضاً معرفة لعبة الإشارات والرموز التي نجح هؤلاء الزعماء في ترسيخها في مخيّلات شعوبهم وأذهانها.
فإذا كانت العودة إلى التاريخ تضعنا أمام جماعة ذات مصير مشترك يمتد إلى أبعد من تمايز هؤلاء الزعماء لتجعل منهم جزءاً من الإرث القومي، فإن التاريخ نفسه أيضاً يضعنا بشكل مواز أمام الفرادة «الوقائعية» لهؤلاء ـ فكل واحد منهم كان قائداً ذا خصوصية معينة ولكن ضمن منظومة من الأقدار المختلفة التي تلتقي عند مستويات معينة.
ناصر وعرفات، أو زمن الرمز القومي
عبد الناصر هو الأول من بين هؤلاء الزعماء الأربعة الذي تُوّج رمزاً في العام 1956 بعد عملية تأميم قناة السويس التي شكلت انتصاراً عربياً أكثر منه انتصاراً مصرياً. في الواقع، إن سطوع نجم عبد الناصر كرمز هو الذي أطلق مفهوم القومية العربية بكافة أشكالها التي نشأت في ما بعد في المنطقة (من الناصرية والبعثية السورية ـ العراقية إلى حركة القوميين العرب..). لقد لقي شعار القومية ترحيباً حاراً من الشعوب العربية، إذ رأته رداً على انهيار الوحدة بعيد سقوط الامبراطورية العثمانية و «بلقنة» المنطقة.
وقد استند الخطاب الناصري ـ القومي العربي إلى مركزية «الوحدة» الضائعة (من المحيط إلى الخليج ) التي يطمح إلى استعادتها. هذه «الوحدة»، التي تـُردّد صدى «وحدة» الأمة، تستمد جذورها من الإسلام أكثر من كونها نابعة من النزعة القومية. في المفهوم الجيوسياسي، هذه «الوحدة» تستخدم لتوصيف «إقليم داخلي» ـ يقابل إلى حد ما «الأقاليم العربية في الامبراطورية العثمانية» ـ هذا الإقليم هو عبارة عن «مساحة داخلية» تتجاوز «البلقنة» وتسترجع بعضاً من الوحدة الضائعة، ليواجه الحملة التي يقودها الغرب الذي يشكل «المساحة الخارجية». ومنذ ذلك الحين لم نتمكن من تجاوز تلك الإشكالية.
منذ ذلك الوقت، ارتقى عبد الناصر إلى مرتبة الرمز السياسي بسرعة هائلة. ان سياسة القطيعة ـ التي تجسّدت في ثورة تموز 52، إعادة تسليح مصر (أيلول 55)، تأميم قناة السويس (تموز 56)، «الانتصار» على الحلف البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي (تشرين الأول ـ تشرين الثاني 56 )، الوحدة مع سوريا وإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة (شباط 58) التي انضمت إليها اليمن (آذار 58) ـ كل هذه الإنجازات أثارت لدى الشعوب العربية شعوراً بأنهم يسيرون قدُماً نحو تحقيق الوحدة، وإن قيام الدولة العربية الكبرى (كبديل من الدولة الإسلامية/ والخلافة الضائعة) أصبح في متناول الأيدي.
من خلال نجاحه في تجسيد «الرغبة المتجذرة في الوحدة»، فتح عبد الناصر أمام الشارع العربي باب الإيمان مجدداً بالوحدة الكاملة والإيديولوجية، الوحدة الراسخة في أذهان الأمة التي ستشكل مركزاً وامتداداً جغرافياً لـ«دار الإسلام»، هذه «الرغبة» التي شكلت «العنصر الحاسم في «مقاومة» واقع انفراط عقد الوحدة.
ولإضفاء المزيد من الرمزية، إن شعبية عبد الناصر لم يكن ممكناً إغفالها بالرغم من الإخفاقات المتكررة، بدءاً من انهيار مشروع الوحدة مع سوريا (أيلول 61)، مروراً بالنكسة في حرب الأيام الستة (حزيران 67).. وغيرها من الإخفاقات التي كان من شأنها في الواقع إطفاء شعلة عبد الناصر.
إن صعود عرفات كرمز خلال السبعينيات وتحديداً من خلال معركة الكرامة في العام 1969، جاء ليغطي على تقهقر (هو في الواقع فشل غير معترف به) رمزية عبد الناصر. لقد رفعت المقاومة الفلسطينية شعار القومية العربية الذي يحمل أصلاً في طياته الخطاب الناصري، فكانت في رأي الكثيرين منقذاً للخطاب القومي الوحدوي. غير أن هذه المقاومة الفلسطينية، رغم نجاحها في إعادة توجيه الخطاب العروبي، لم تنجح في إدخال أية تعديلات عليه أو تجديده. إلا أن الميزة الوحيدة للمقاومة الفلسطينية هي أنها غيّرت محور هذا الخطاب: فالطرح الأساسي للقومية كان يتمحور حول توحيد الأمة العربية كشرط لتحقيق أي مشروع آخر (مثل تحرير فلسطين، إقامة نظام اشتراكي...). لكن خطاب المقاومة الفلسطينية استند إلى حقيقة أنه مثلما نجح النضال من أجل تحرير فلسطين في بث الحياة من جديد في نفوس الفلسطينيين وتوحيدهم ضمن منظومة شعب مقاوم، فإنه عبر النضال ذاته يمكن إعادة إحياء الشعب العربي وتوحيده ليكون شعباً عربياً مقاوماً. لذلك فإن النضال لتحرير فلسطين أصبح الركيزة الأساسية من أجل تحقيق كل المشاريع الأخرى بما في ذلك مشروع الوحدة.
لقد عرف نجم عرفات سطوعاً، كما شهد أفولاً. وقد تعرض عرفات خلال مراحل متلاحقة الى المديح المفرط أو الهجوم الحاد. وإذا كان عرفات قد ترك بعد وفاته شيئاً للذكرى، فذلك لأنه نجح في تجسيد رمزية الممانعة ضمن «المساحة الداخلية في الشرق الأدنى ـ الأوسط»، سواء أكان في عيون الفلسطينيين الذين يمثل بالنسبة إليهم قيامتهم شعباً ومجتمعاً، بالرغم من مشروع «تفتيت النسيج الاجتماعي» «sociocidaire» الذي يقوده الصهاينة، أم في عيون العرب الذين وجدوا فيه تجسيداً لقيامتهم ووحدتهم الخاصة.
وبخلاف كل القادة العرب، لم يحظ أحد غير عرفات بهذا المستوى من الحماسة الشعبية رغم كونها الأُمنية التي تساور الكثيرين منهم! ولم يجسّد أحد بشكل أفضل من عرفات وعبد الناصر هذه الحقبة من تاريخ العرب المعاصر.
الخميني أو زمن الرمز الإسلامي
... لكن حكم على القومية العربية بألّا ترى النور. في الواقع، كان يفترض بهذا المشروع أن يحتضر طويلاً قبل أن يموت نهائياً. وفي عيون مؤيدي القومية، لم يدفن هذا الحلم نهائياً إلا بفعل تداعيات حرب تشرين (1973)، وزيارة السادات إلى القدس (تشرين الثاني 77)، ومن ثم توقيع اتفاقية كمب ديفيد مع إسرائيل (أيلول 78)، وميثاق السلام في واشنطن (آذار 79)، انتهاءً باستئصال منظمة التحرير الفلسطينية من الساحة اللبنانية والإقليمية (صيف 82)، وهذه الأحداث أنهكت الخطاب القومي وأفرغته من كل معانيه. وفي أثناء احتضار مشروع القومية العربية، ولد مشروع آخر لا يقل عنه حجماً من حيث السمات أي الاستمرارية ونزعة «الانفصال» وذلك من رحم انتصار الثورة الإسلامية في إيران (شباط 1979) .
.. من حيث الاستمرارية، لأن هذا المشروع الجديد الذي انطلق بفعل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، قد وضع، تماماً مثل مرادفه العربي، في إطار «الممانعة».
من حيث الانفصال الجيوسياسي، لأن هذه الممانعة «الجديدة» تخص من دون أدنى شك «المساحة الداخلية» في الشرق الأوسط / الأدنى، ولكن التي عادت وتحلقت جيوسياسياً حول إيران التي تحوّلت إلى نقطة الارتكاز الجديدة.
ومن حيث «الانفصال الإيديولوجي» أيضاً لأن الممانعة التي تميّزت بها العروبة والتي تشكلت في قالب من الحداثة، استعارت من الغرب ايديولوجيا القومية التي ولدت في «عصر الثورات» على حد تعبير هوبسباون بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر، في حين كانت ممانعة الثورة الإسلامية التي تقاطع الحداثة، تلتقي مع الخطاب الإسلامي الأكبر والخطاب الإقليمي منذ ولادة الدين الإسلامي، والحال نفسها تنطبق على الخطاب الإسلامي بصيغته الشيعية.
وأخيراً من حيث «انفصال» القيادة السياسية، لأن الخطاب الشامل للعروبة كان ـ تحت مظلة القومية العربية ـ هو نفسه الخطاب السياسي للعرب السنّة، بينما كان خطاب الثورة الإسلامية هو نفسه خطاب الإسلام الشيعي (الإيراني ـ العربي).
لم يدم الحكم السياسي للخميني سوى عشر سنوات من العام 1979 تاريخ عودته ظافراً إلى إيران وحتى وفاته في العام 1989. وفي ما عدا بعض لحظات القوة (احتلال السفارة الأميركية في طهران، لقاء عرفات..) التي أدّت إلى اتساع التأييد الشعبي له ليتخطى الجماهير الشيعية ويبلغ طوائف أخرى، فإن جوهر الممانعة التي جسّدها الخميني بالإضافة إلى الخطاب الإسلامي (بصيغته الشيعية) الذي رفع من شأنه، لم يمثلا التنوع الإثني أو الديني لشعوب المنطقة.
نصر الله في تقاطع الرموز
ان تحوّل الخميني إلى رمز ـ الذي أحدث تغييراً جذرياً في مضمون الممانعة الذي انتقل من القومي إلى الديني، وتبدّل اللاعبين الأساسيين من سنّة إلى شيعة، وتحوّل نقطة الارتكاز الجيوسياسة من القضية الفلسطينية (الشرق الأدنى) إلى مسألة «الإرهاب» و«الأصولية الإسلامية» (الشرق الأوسط وحتى الشرق الأقصى) ـ هذا التحول قد قوبل بالرفض من جانب العرب السنّة في المنطقة الذين رأوا فيه محاولة لإخراجهم من المعادلة الإقليمية. وعلى خلاف ولادة رمز الخميني التي ارتكزت إلى حد كبير على الخطاب الديني، فإن رمزية نصر الله التي برزت في حزيران 2000 عند تحرير الجنوب اللبناني، وعلى الأخص نتيجة مقاومته الباسلة التي انتصرت في الحرب الإسرائيلية على لبنان (تموز 2006)، هذه الرمزية القيادية تقوم عند تقاطع اتجاهين من الممانعة: ممانعة إسلامية تتبنى الخط الخميني وأخرى قومية. فنصر الله استعاد الخطاب القومي السنّي الذي يقوم على الدعوة إلى محاربة إسرائيل، كما التقى مع «ممانعين» من السنّة (مثل حماس، الجهاد الإسلامي..). فهل سينجح حيث فشل الآخرون؟
لماذا الرموز؟
ثمة أنواع كثيرة من الرموز. هناك من هم «رموز في زمن المحن» وآخرون هم «رموز للمستقبل». وإذا كان كل رمز يعدّ «دليل تعارف» فإن رموز «زمن المحن» هم في الواقع «دليل إنكار» للواقع الحقيقي أكثر من كونهم «دليل تعارف» وسط ذوي الانتماء الواحد.
لذا، فإن رموز المنطقة العربية سواء أكانوا قوميين أم إسلاميين، قد جهدوا من أجل التغطية على «الكارثة»، كارثة انهيار الامبراطورية، وبلقنتها، بعد ما لحقها من تفتيت وشرذمة وضياع للوحدة، وخصوصاً لأن الرمز ليس انعكاساً لحقيقة مستقلة عنه. فهو لا ينتمي إلى عالم الواقع وإنما إلى العالم القابل للادراك: إذ انه يسمح بإدراك حقيقة هذا الواقع كما يراها ويتلقاها مستخدموها ويفسح المجال، من وجهة نظرهم، أمام الولوج إليه. وما اختيار الرموز إلّا نتيجة نزعة الممانعة لدى الناس هنا، وهي نزعة تحول دون انتقال «الرغبة» بـ«الوراثة». لهذا السبب، فقد تم «تقبل» هؤلاء الرموز على أنهم «ضمانات» بأن الماضي بروعته النبوية و/ أو الوحدوية لم يدمّر على نحو كامل، وأن المستقبل ما زال أمامه. ولكن حتى ولو كانت رموزنا رموزاً لزمن المحن، يبقى أنها تعبر عن ممانعة شعوب هذه المنطقة خلال تاريخنا الحديث. ومن أجل القضاء على هذه الممانعة، تصاغ مشاريع على شاكلة الشرق الأوسط الجديد أو الأوسع...
* فيلسوف وكاتب لبناني