جيلبير أشقر *
المقتطفات التالية مأخوذة من خاتمة كتاب «قوة خطيرة: الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية» الذي كتبه نعوم تشومسكي وجيلبير أشقر. وقد وضع ستيفان شالوم مقدمة هذا الكتاب الذي ستنشره شركة «بارادايم بابليشرز» في 15 أيلول 2006.
س: شهد العراق في الأشهر الأخيرة تصاعداً وتمدداً للاعتداءات المذهبية. فكيف تقوّم تطوّر الوضع العراقي؟ وبشكل خاص، هل تظن أن حرباً أهلية قد اندلعت؟ وهل تعتقد بأن الفوضى المذهبية تستدعي إطالة أمد بقاء القوات الأميركية في هذا البلد؟
جيلبير أشقر: لقد تدهور الوضع العراقي خلال الأشهر الستة الماضية على نحو مخيف جداً، وقد سار هذا البلد نحو تحقيق السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى العراقيين، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون الأسوأ بالنسبة إلى واشنطن.
لم تخدم نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية في كانون الأول 2005 الخطط الأميركية في العراق. وقد أظهرت النتائج الرسمية ان «الائتلاف العراقي الموحّد» لم يحظ بالغالبية التي سبق له أن حصل عليها في المجلس السابق على رغم حصوله على الكتلة الانتخابية الأكبر في البرلمان (129 مقعداً من أصل 275). لقد كان هذا الأمر متوقعاً بعد مشاركة العرب السنّة الذين كانوا قد قاطعوا انتخابات كانون الثاني 2005، فجاءت النتيجة الانتخابية استثنائية. والواقع ان خسارة الائتلاف 212 مقعداً في البرلمان كان وقعها أسهل بكثير من خسارة «الائتلاف الكردي» ما لا يقل عن 22 مقعداً، فيما تراجعت اللائحة التي يرأسها عميل واشنطن أياد علاوي بشكل كبير ولم تحصل سوى على 25 مقعداً بعدما كانت تسيطر على 40 مقعداً في الماضي.
ومن العبر التي يمكن استخلاصها من هذه النتائج هي انه لو وافق أي من الائتلافات «السنيّة» ــ سواء أكانت «جبهة الوفاق العراقية» (44 مقعداً) وهي عبارة عن ائتلاف بين الحزب الإسلامي (أي الجناح «المعتدل» في جماعة الإخوان المسلمين) والقوى القبلية السنيّة العربية التقليدية، أم «جبهة الحوار الوطني العراقي» منفردة (11 مقعداً) وهي كناية عن ائتلاف قومي عربي يضم بعثيين سابقين وآخرين راهنين يرفضون قيادة صدام حسين ــ لو وافق أي منهم على إقامة تحالف مع «الائتلاف العراقي الموحّد»، لكانوا ضمنوا غالبية مطلقة في البرلمان العراقي. فكل ما كان يحتاج إليه الائتلاف للحصول على هذه الغالبية هو 10 أصوات وربما أقل إذا أخذنا في الحسبان المقعدين اللذين فازت بهما مجموعة شيعية مقربة من الصدريين، والتي ما لبثت أن انضمت إلى «الائتلاف العراقي الموحّد».
والحقيقة هي انه كان يمكن كتلة موسّعة تضم عدة مذاهب وطوائف أن تواجه الضغط السياسي الذي تفرضه واشنطن من خلال حلفائها الأكراد ومجموعة علاوي وأي طرف آخر ينضم إليهم.
ولكن تبين ان الائتلافين «السنيّين» أكثر اهتماماً بالتواصل مع واشنطن ظنّاً منهما ان الحصول على دعم الولايات المتحدة في مواجهة «الائتلاف العراقي الموحّد» الشيعي سيجعلهما في وضع أفضل مما قد يحصلا عليه في حلف مع الائتلاف. فقد كانا إذاً في حماسة لممارسة لعبة سياسية مذهبية حقيرة بدلاً من العمل على تسريع وتيرة التحرر الوطني من الاحتلال. من جهة أخرى، كان عدد كبير من العرب السنّة يعتبرون ان هيمنة إيران على العراق ــ طهران التي كانوا يرون انها تستخدم «الائتلاف العراقي الموحّد» أداة لها ــ تشكل تهديداً أكبر على العراق من الهيمنة الأميركية، وهو ما يفسّر سياسياً هذا النوع من السلوك السنّي.
لقد دخلت الائتلافات البرلمانية العربية السنيّة في تحالف مع أياد علاوي من أجل إحداث انقلاب على صعيد النتائج الانتخابية. وفي شهر كانون الثاني الماضي، كان لي تعليق (أي جيلبير أشقر) إذ شددت على ان اعتراضات هذه الشريحة من السنّة على نتائج الانتخابات لم تكن صادقة وإنما كان الهدف منها ابتزاز «الائتلاف العراقي الموحّد» سياسياً. فما جرى بعد ذلك الحين أثبت ان تقويمي كان في محلّه: فعندما حصلت الائتلافات السنيّة ــ ومعها السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاده ــ على ما تريده في ما يتعلق بالحكومة، توقفوا عن إبداء التذمّر مما وصفوه بـ«التلاعب بنتائج الانتخابات».
وفي تلك الأثناء، شهد العراق صراعات عنيفة بين الكثير من القوى. وقد كان التنافس الأكبر بين «الائتلاف العراقي الموحّد» المدعوم من إيران من جهة، وائتلاف موسّع يضم «التحالف الكردي» والأحزاب «السنيّة» التي خاضت الانتخابات بالاتفاق مع علاوي المدعومين من خليل زاده من جهة أخرى والذين لقوا الدعم أيضاً من عدد من الزوار الأميركيين الرفيعي المستوى الذين كانوا يصرون بخبث شديد على ضرورة منح العرب السنّة حصة كبيرة في السلطة في العراق. علماً بأنه بعد انتخابات كانون الثاني 2005، لم تحاول إدارة بوش أن تفرض شروطها على «الائتلاف العراقي الموحّد» فحسب وإنما سعت أيضاًً لفرض علاوي على رأس الحكومة العراقية، على الرغم من الخط الأحمر الذي وضعته كل من إيران والائتلاف العراقي. لكن واشنطن وافقت في النهاية على التراجع بعدما بذلت جهوداً للتخلص من المرشح الذي سماه «الائتلاف العراقي الموحّد» لرئاسة أول حكومة عراقية «عادية» وفقاً لدستور جديد ــ أي الرجل نفسه الذي رأس الحكومة العراقية المؤقتة: إبراهيم الجعفري.
أما الصراع الكبير الثاني فكان داخل «الائتلاف العراقي الموحّد» نفسه الذي انقسم إلى كتلتين كبيرتين: «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» من جهة وأتباع مقتدى الصدر من جهة أخرى. وقد سعى المجلس للحصول على رئاسة الوزراء وإيكالها لرجله عادل عبد المهدي، وهو ماوي سابق (أتباع ماو تسي تونغ) لكنه تحول ليصبح أصولياً إسلامياً ونيوليبرالياً في الوقت عينه. وعلى الرغم من ان «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» هو أقرب المجموعات العراقية إلى إيران، وعلى الرغم من تأييده لقيام دولة فيدرالية في جنوب العراق، وهي فكرة مرفوضة من الولايات المتحدة (ومن كل القوى العراقية العربية ومن بينها أتباع مقتدى الصدر)، دعمت واشنطن عادل عبد المهدي أملاً منها في أن يتمكن هذا الأخير من مساعدة أميركا في بسط سيطرتها على النفط العراقي تحت شعار الأسواق الحرة والمفتوحة. من جهته، كان خليل زادة، المهووس بتقليص نفوذ مقتدى الصدر، يحاول بأسلوبه الخاص أن ينشر الخلافات داخل «الائتلاف العراقي الموحّد». أما الصدر فدعم بقوة صديقه زعيم حزب الدعوة إبراهيم الجعفري الذي كان يرى انه الأقرب إلى مواقفه السياسية (وافق الجعفري من دون تحفظ على «ميثاق الشرف» الذي حاول الصدر أن يحث غالبية القوى العراقية المستقلة عن واشنطن على توقيعه (1). وكان من المقدّر أن تنشأ خلافات وحالات توتر بين الفصيلين، لكن طهران ــ التي دعت مقتدى الصدر لزيارتها بعد انتخابات كانون الأول ــ كانت عاملاً رئيسياً في الحؤول دون تفكك «الائتلاف العراقي الموحّد» فحثت «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» على اعتبار وحدة «الائتلاف العراقي الموحّد» أولوية مطلقة. بذلك، اختير مرشح الائتلاف لرئاسة الوزراء في عملية ديموقراطية عبر التصويت داخل الائتلاف، ما أعطى غالبية ضئيلة للجعفري. وقد عمد «مروّجو الديموقراطية الأميركية» إلى بذل أقصى الجهود لعرقلة الآلية الدستورية: ففي الحالة الطبيعية، كانت الجمعية لتلتئم وتنتخب رئيساً يُفترض أن يسمّي مرشح الكتلة الأكبر في البرلمان ــ أي الجعفري في هذه الحال ــ كي يحاول تأليف حكومة. فهذا الموقع كان سيفسح المجال أمام الجعفري للمناورة بين الكتل علّه ينجح في كسب عدد لا بأس به من الممثلين العرب السنّة، عدد يضمن له غالبية برلمانية، ما يجبر «التحالف الكردي» على المشاركة إذا كان لا يريد البقاء خارج الحكومة. من الواضح ان سيناريو من هذا النوع لم يكن موضع بحث في واشنطن: والنتيجة كانت موقفاً حازماً وشديد الخطورة، إلى أن تم التوصل إلى تسوية أدت بالجعفري إلى أن يرتضي باستبداله بالرجل الثاني في حزب الدعوة أي نوري المالكي. وقد صُوِّر هذا الأخير على انه أقل قرباً من إيران وأكثر مرونة وإذعاناً من الجعفري. والحقيقة ان المالكي بدا أكثر تواطؤاً من الجعفري في علاقته مع الولايات المتحدة. فالاختلاف بين الرجلين، زعيمي الحزب عينه، لم يكن مثيراً للانتباه إلى أن تبدّت فرحة واشنطن ولندن بعد تعيين المالكي كما لو ان علاوي نفسه هو من أُعيد انتخابه مرة جديدة رئيساً لحكومة العراق. فهذا كله لم يكن في النهاية سوى نتيجة فشل مقتدى الصدر. وكما سبق لي أن ذكرت، حاول الصدر كثيراً إقناع المجموعات البرلمانية وغير البرلمانية العربية السنيّة بالانضمام إلى تحالف مناهض للاحتلال، لكنه فشل فشلاً ذريعاً: فقد رفضت المجموعات البرلمانية العربية السنيّة عروضه والتزمت بتحالفاتها مع الأحزاب الكردية ومع سفير واشنطن في العراق. أما «هيئة العلماء المسلمين» المقربة جداً من المتمردين العرب السنّة فقد خيبت أمل الصدر بشدة: لم يتمكن من دفعها إلى إدانة الزرقاوي وفرع «القاعدة» في العراق على نحو حاسم (حتى ان الصدر كان يريد من الهيئة أن تلقي بالحُرم على مجموعة الزرقاوي). وقد شكل موقف الصدر الراديكالي المناهض للبعثية ما يشبه حائط الصدّ في علاقاته مع السنّة القوميين العرب. فقد كان قد أبدى تبرّماً من رفض المجموعات السنيّة، التي اقترب منها قبل انتخابات كانون الأول، التوقيع على «ميثاق الشرف» الذي وضعه.
الصفعة الكبرى الثانية التي أصابت الاستراتيجية الصدرية الرامية إلى محاولة بناء تحالف مناهض للولايات المتحدة مع القوى العربية السنّية المعارضة للاحتلال، هذه الصفعة كانت الحدث الأكثر إسهاماً في تأجيج التوتر المذهبي بين العرب الشيعة والعرب السنّة في العراق وهذا الحدث هو بالطبع الهجوم الذي استهدف مرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء في 22 شباط 2006. فهذا الهجوم أدى إلى ردود انتقامية من المقاتلين الشيعة الغاضبين من السلسلة اللامتناهية من الاعتداءات المذهبية الدموية التي استهدفت الطائفة الشيعية منذ بداية الاحتلال.
كان جيش المهدي التابع للصدر متورطاً حتى أذنيه في هذه العمليات الانتقامية، غير أن ذلك لا يعني ان الصدر هو الذي منحه الضوء الأخضر، بل على العكس، فمثل معظم الزعماء الشيعة، حاول الصدر وسعه لتهدئة النفوس لكن نظراً إلى ان الميليشيا التابعة له أقل مركزية من ميليشيا بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، فإن الصدريين استجابوا لغرائزهم قبل أن ينظروا في أي خيار آخر وقبل أن ينصتوا إلى صوت الحكمة السياسية.
في مختلف الأحوال، استُغلّت هذه الأحداث الأليمة بشكل كبير من قبل ائتلاف غريب من القوى ــ من بينها الأصدقاء الأميركيون والأصوليون السنّة المؤيدون للزرقاوي والبعثيون الصداميون ــ وذلك من أجل تشويه صورة مقتدى الصدر في أوساط العرب السنّة والقضاء على أي «جاذبية» كان سيحظى بها نتيجة مواقفه المعارضة للاحتلال والمستقلة عن إيران. وهكذا تهدّمت الخطوات السياسية التي كان قد حققها الصدر خلال المرحلة السابقة من حيث النفوذ والتأثير على القاعدة العراقية العربية (السنّية والشيعية على حد سواء)، مثلما دُمّرت القبة الذهبية لمرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء. غير ان الأكيد ان الصدر ما زال يتمتع بنفوذ كبير في الوسط الشيعي وخصوصاً داخل الطبقات المحرومة وهذا النفوذ قد ضاعفه الدور الذي أدّاه جيشه في تجسيد الجناح العسكري للطائفة الشيعية أكثر من أي مجموعة أخرى. إلاّ ان الحقيقة الراسخة هي ان الصدر بات اليوم أبعد من أن يكون زعيماً للقوميين العرب الشيعة والسنّة، أكثر مما كان من قبل وخصوصاً أثناء المواجهات التي خاضها ضد قوات الاحتلال في عام 2004.
على رغم كل هذه التطورات، لم يسقط العراق بعد في أتون الحرب الأهلية الكاملة والشاملة. لذلك فإن ما صنّفته قبل عام على أنه «حرب أهلية منخفضة الحدّة» (2) لم تتوقف حدته عن التنامي خلال سنة 2005 وبداية 2006 أي قبل الانفجار المذهبي المفاجئ والأكثر خطورة الذي تسبب به هجوم سامراء. غير أني إذا ما عدت إلى تجربتي الخاصة في لبنان، يمكنني القول ان هناك عنصرين لا يزالان حتى الآن يقفان حائلاً دون تطور الوضع الراهن في العراق إلى حرب أهلية شاملة وكاملة: العامل الأول هو صمود الحكومة العراقية الموحدة ووجود قوات مسلحة عراقية موحدة ــ على الأقل حتى الآن، أما في لبنان فقد كان تفكك الحكومة في بداية عام 76 وانقسام الجيش اللبناني هما الدافع إلى أتون الحرب الأهلية. العامل الثاني هو انتشار قوات مسلحة أجنبية تؤدي دور الرادع والحكم تماماً مثل الدور الذي كان يضطلع به الجيش السوري ــ ولكن على نحو متقطع ــ في لبنان منذ عام 1976. المقصود هنا الإشارة إلى ما كنت قد ألمحت إليه سابقاً، وخصوصاً ان انزلاق العراق إلى السيناريو الأكثر سوءاً بالنسبة إلى الشعب العراقي لا يشكل بالضرورة السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى واشنطن. ففي الواقع ان معظم ما شهده العراق خلال الأشهر الأخيرة، باستثناء ما يُروّج عن السلوك الإجرامي للقوات الأميركية، قد جاء مناسباً للمخططات الأميركية. فالارتفاع الشديد في حدة التوتر المذهبي في العراق فضلاً عن فشل مشروع مقتدى الصدر صبّا في مصلحة واشنطن.
(1) ــ راجع جيلبير أشقر، «ميثاق عراقي شامل حول مبادرة مقتدى الصدر»، زد. نت، 9 كانون الأول 2005.
(2) ــ «ان الأمل الوحيد بتفادي الانزلاق نحو حرب أهلية شاملة وتدميرية ــ إذا ما اغتيل السيستاني مثلاً ــ ليس وجود القوات الأميركية بل نجاح القوى المشاركة في العملية السياسية، أي غير المتورطة في الحرب الأهلية «المنخفضة الحدة» الدائرة اليوم في العراق، في السيطرة على أنصارها وكبح جماح غضبهم، وذلك عبر التأكيد لهم أن منفذي هذه الاعتداءات هم إما البعثيون وإما أتباع الزرقاوي الذين يطمحون إلى إشعال حرب أهلية، وأن الرد الأفضل عليهم يكون بالإصغاء إلى إصرار السيستاني على ضرورة تفادي أي نوع من الحرب المذهبية»، أنظر «أشقر: حول اقتراحات كول لانسحاب القوات الأميركية البرية» نشرت في 23 آب 2005 على موقع خوان كول على الإنترنت .
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* باحث لبناني في العلاقات الدولية