خورشيد دلي *
تتضافر الإشارات التي تشير إلى أن محنة السياسة التركية تجاه شمال العراق بدأت تسير في طريق التلاشي، فبعد سنوات من احتلال العراق وظهور بنيان دولة كردية في شماله ظهرت السياسة التركية كأنها في صدام مع أولويات السياسة الأميركية في العراق وخاصة في ظل الإعلان الأميركي المتواصل أن الإدارة الأميركية لن تســـــــــمح للدول المجاورة للعراق بالتدخل في شؤونه الداخلية إلى درجة يمكن القول إنه في ظل هذه المعادلة سقطت ما كانت أنقرة تعدّه من محرمات سياسية لها في شمال العراق (دخول القوات الكردية إلى المــــــوصل وكركوك ــ اضطرار الجيش التركي إلى الانسحاب من المنطقة الحدودية في شمال العراق على الرغم من وجود مواقع لحزب العمال الكردستاني هناك ــ تأسيس بنية دولة في كردستان العراق..) اليوم ووسط تطورات ســـاخنة تـــــشهدها منطقة الشرق الأوسط ومنها ما هو مرشح للمزيد من التصعيد كالملف النووي الإيراني فإن ثمة عوامل قد تساهم في إعادة الدفء إلى العلاقات التركية ــ الأميركية كل لمصالحه وتطلعاته تجاه الآخر.
أهمية إستراتيجية لتركيا
في الواقع، إذا كانت علة العلل في السياسة التركية هي القضية الكردية بتعقيداتها وتشعباتها، وهي في سبيل عدم حل هذه القضية على حسابها مستعدة للتحالف حتى مع دول من خارج المنطقة، فإن السياسة الأميركية تظل تحتفظ بأهمية استراتيجية لدور تركيا في مخططاتها ومشاريعها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان ولا سيما في ظل الأزمات الجارية، وعلى قاعدة هذا الفهم المتبادل للمصالح والأدوار تنشط تركيا في الفترة الأخيرة للحصول على موافقة أميركية تحمل بدورها موافقة عراقية على شن عملية عسكرية مشتركة ضد مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق تحت عنوان مكافحة (الإرهاب) بغية ضرب بنية الحزب المذكــــــــور ونزع سلاحه وإقامة منطقة أمنية عازلة وذلك على غرار الأهداف التي أعلنتها إسرائيل في أثناء عــــدوانها عــــــــــلى لبنان، وقد دعمت أنقرة سعيها هذا بحركة داخلية تـــمثلت في تعيين المعروف بتشدده الجــــــــنرال يشار بيوك أنيت قـــــــــــائداً للجيش الذي ما إن استـــلم مهامه حتى وقعت ســـــلسلة تفجيرات في منتجعات سياحية تركية نفى حـــــزب العمال الكردستاني أي صلة له بها فيما رأى البـــــعض انها من تدبير أجهزة محددة، الهدف منها التعبئة الداخلية لتبرير الهجوم المنتظر.
في المقابل، تسعى الإدارة الأميركية هذه الأيام ولأسبابها الخاصة إلى الأخذ بالمخاوف التركية في قضية مكافحة نفوذ حزب العمال الكردستاني في العراق، إذ عينت أخيراً الجنرال المتقاعد والقائد الأعلى السابق لقوات حلف الناتو جوزيف رالستون مبعوثاً أميركياً خاصاً لشؤون مكافحة الحزب الكردستاني على أن تكون مهمته التنسيق بين الحكومتين العراقية والتركية للقضاء على التهديد الذي يشكله الحزب المذكور، وهذه أهم إشارة قوية من واشنطن منذ احتلال العراق إلى التنسيق مع تركيا في قضية الحزب الكردستاني بعد الحديث عن أن الجيش الأميركي في العراق أقام علاقات مع الحزب المذكور كنوع من العقاب للحكومة التركية على موقفها السابق من رفض الحرب الأميركية على العراق وعدم الموافقة على استخدام الأراضي التركية في هذه الحرب.
كسب تركيا في المعركة ضد ايران
وإذا كان لا يخفى على أحد أن واشنطن تهدف من وراء خطوة استئناف تعاونها مع تركيا في مسألة مكافحة الحزب الكردستاني هو كسب تركيا إلى جانبها في المعركة التي تحضر لها ضد إيران على وقع ملفها النووي حيث قاعدة إنجرليك الاستراتيجية القريبة من الأراضي الإيرانية التي تشكل أهم القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة منذ أيام الحرب الباردة، فإن تركيا تنتظر من حملتها المرتقبة على حزب العمال الكردستاني باسم مكافحة الإرهاب تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية التي من شأنها إعادة الزخم إلى الدور التركي في مستقبل العراق بعد أن فقدت مثل هذا الدور بعد احتلال العراق وقيام ما يشبه تحالف أميركي ــ كردي ــ عراقي، وتدرك تركيا تماماً ان مثل هذه العودة إلى الدور والنفوذ في العراق لا يمكن ان تكون إلا من خلال موافقة الإدارة الأميركية التي باتت ترسم سياسات الدولة العراقية على الرغم من النفوذ الإقليمي لبعض الدول، إضافة إلى هذا فإن أنقرة تدرك جيداً أن العودة إلى العراق من البوابة الأميركية أصبحت الطريق الوحيدة لإجهاض الصعود الكردي في العراق وتنامي أفكار الفيدرالية والاستقلال وولادة دولة حقيقية على أرض الواقع لن تمنع الحدود الجغرافية مع الأيام والسنوات انعكاساتها المباشرة على أكراد تركيا وتطلعاتهم القومية حيث يزيدون أكراد العراق عدداً وجغرافية وتجربة سياسية وعسكرية، وأمام هذه الأهداف الحيوية والاستراتيجية لتركيا فإن التحضير لهجوم كبير في شمال العراق بات يحتل أولوية في دوائر الجيش التركي وخاصة بعد تعيين قائد جديد له معروف بتشدده القومي. والمعادلة هنا، بقدر ما تريد واشنطن هذه الأيام دوراً لتركيا في حملتها على إيران، تجهد تركيا لجر الأميركيين ودفعهم إلى الضغط على الحكومة العراقية من أجل حربها المقررة في شمال العراق.
ضوء أخضر أميركي للحرب ؟
في الواقع، إذا كان السؤال الهام هنا هل ستسمح واشنطن لأنقرة خوض مثل هذه الحرب كما سمحت لإسرائيل شن حرب على لبنان؟ فإن المسألة الجوهرية هنا هي ان هذه الوقائع السابقة تشير إلى ان تركيا لم تغير سياستها القديمة بعد على الرغم من قولها إنها مع حكومة العدالة وكونها على أبواب العضوية الأوروبية، إذ تعرف تركيا جيداً وأكثر من غيرها أن مشكلتها الكردية لا تحل إلا في تركيا نفسها ومن خلال مصالحة تاريخية مع واقع هذه المشكلة لا بشراء موافقة أميركية مرهونة بدور في حملة أو ربما عاصفة أميركية جديدة على المنطقة، عاصفة ربما تدفع المنطقة إلى المجهول.
* كاتب سوري