يظهر التحقيق الأخير للصحافي غيث عبد الأحد ــــ الذي شهد، من صنعاء، مرحلة «نزول أنصار الله من الجبال» وسيطرتهم على العاصمة ــــ الكثير مما يخفيه الاعلام العربي عن اليمن، ويدعم التحليل الذي يحاجج بأن الهدف الحقيقي للسعودية من حربها ضد اليمن لم يكن «مواجهة ايران» أو اعادة الروح للقومية العربية بل، ببساطة، منع قيام نظام سياسي مستقرّ وتوافقي في البلد الكبير الذي يحدّها جنوباً، وهو ــــ لا نفوذ ايران ولا تمدّد مقاتلي صعدة ــــ السيناريو الذي يخيف الرياض فعلياً ويدفعها الى الحرب.
في الأعوام الماضية، راقبت السعودية كلّ النخب الموالية لها في اليمن، والتي تحكّمت عبرها بالعملية السياسية، أقلّه منذ عام 1994، وهي تُقصى أو تهزم أمام الحوثيين. والحكم السعودي قد قرّر منذ زمنٍ بعيد أن لا يسمح للسلطة، في بلدٍ صار عدد سكانه يزيد على الثلاثين مليوناً، بأن تفلت من يده. هذا قد يفسّر قول المندوب الأممي، جمال بنعمر، إنّ الحملة السعودية ابتدأت حين كان الفرقاء السياسيون على وشك التوصل الى اتفاق حول ادارة الحكم (وايضاً رفض الأداة السعودية الأساس في اليمن، «الرئيس» هادي، في 28 آذار لمبادرة هدنة توقف القصف على بلاده، واصراره على استكمال الحملة وتصعيدها حتى عودة النظام السياسي القديم).
من وجهة نظر معيّنة، قد تكون الرياض قد نجحت في مسعاها بمجرّد ادخالها لـ «أنصار الله» في أتون الحرب ومعادلاتها، واجبارهم على الخروج من المناطق «المتعاطفة» الى الجنوب ومحاصرة عدن، في غياب اتفاق سياسي مع الجنوبيين ينظّم العلاقة مع المؤسسة الحاكمة في اليمن ويصحّح أخطاء الماضي. دخل الحوثيون صنعاء من دون مقاومة لأن الناس والقبائل كانت قد أحبطها النظام السياسي القديم، واستبدال بطانة علي عبد الله صالح (التي تقوم على العائلية والفساد) بأخرى (يقودها الاخوان) أكثر فساداً وتبعية. ولكن، كما قال أحد السياسيين لغيث عبد الأحد، ما معنى أن توفّر ملايين الريالات من حسابات الفساد فيما يقع البلد تحت عدوان يكلّفه المليارات؟
من جهةٍ أخرى، فإن تاريخ الحركة الحوثية يعكس بوضوح عناصر القوة التي سمحت لها بالاستمرار والانتشار، في ظلّ أصعب الظروف. على عكس ما يصوّره الاعلام العربي المسعور بالطائفية، فالحوثيون لا يرون أنفسهم كحركة مذهبية، مع أن جهود السعودية خلال السنين الماضية تركّزت على شقّ البلد طائفياً؛ ولا يرون الزيدية كامتداد «شيعي». في الوقت نفسه، فإن هذه الحركة الاحيائية قد قامت في وجه تحدٍّ ثقافي فرضه عليها انتشار الوهابية والسلفية في اليمن منذ السبعينيات. هذه الوضعية أجبرت «أنصار الله» على دخول السياسة من باب اقناع الناس والعمل «من تحت» في حلبة الهيمنة الثقافية، وهذا أهم شروط الحركات الجماهيرية.
ثانياَ، وعلى عكس «التراث السياسي» في اليمن، يركّز الحوثيون كثيراً على فكرة الاعتماد على النفس والاقتصار على تبرّعات المناصرين؛ كما قال أحد قادة الحركة للصحافي ساخراً من العقوبات الأممية: حين لا تملك حسابات مصرفية، ولا حاجات مكلفة، لا تعود تؤثر بك قرارات النظام الدولي ولا تغيّر الأحلاف، ولا يمسك قرارك أحد. قد تكون السعودية منعت «أنصار الله» من بناء نظام سياسي مستقرّ، ولكن حركة تقوم على معاداة العرش السعودي واميركا، وتأسست على قصة استشهاد كربلائية الطابع، وتؤمن بأن قتال الأقوياء قد كتب عليها، لن تهزّها فكرة الحرب والمواجهة.