جورج قرم *
ت‌. وأما الروم الأرثوذكس فقد كانوا لفترة طويلة دعائم التأثير الروسي في لبنان (القيصرية الروسية ومن ثم الشيوعية) كما كانوا من بين الكوادر الأكثر نشاطاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة، رافضين الاعتراف بأية قيمة للكيان اللبناني، فضلاً عن كونهم ناشطين جداً في مختلف التيارات الشيوعية. في حين أن شريحة أخرى من أبناء طائفة الروم الأرثوذكس كانت ولا تزال تشكل امتداداً للنفوذ الأميركي. ولكن مثل الطوائف الأخرى في لبنان، فإن مساهمة الروم الأرثوذكس تعتبر مركزية في الثقافة اللبنانية.
ث‌. من جانبه، حزب الكتائب اللبنانية استمد مبادئه من العقائد الفاشية الأوروبية، ومن ثم تعاون عسكرياً ومن دون أي خجل مع إسرائيل (1978 ـ 1988) خلال أحداث عام 75 لغاية عام 90، وذلك بعد أن تعامل مع سوريا (1975 ـ 1976) من أجل سحق الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.
2 ـ لقد حقق حزب الله تطوراً ملحوظاً منذ عام 1992 باتجاه «التلبنن» (libanisation) وقبوله باللعبة الديموقراطية، وأخيراً أعرب الحزب عن دعمه لمبدأ الديموقراطية التوافقية وتخلّى عن مطالبته بتطبيق قاعدة الأكثرية. ولم تكن وثيقة التفاهم التي وقعها حزب الله مع تيار الإصلاح والتغيير الذي يرأسه الجنرال عون سوى سقف متقدم من التوافق الوطني الذي يجب على أساسه بناء المستقبل.
3 ـ إن بعض الطوائف حملت السلاح منذ عام 1840، والذي تم توجيهه أحياناً ضد الطوائف الأخرى واستخدم أحياناً أخرى لإرهاب وإسكات الأصوات المعارضة ضمن الطائفة الواحدة. هذا بينما كانت أسلحة حزب الله تستخدم حصرياً للنضال ضد المحتل الإسرائيلي.
4 ـ لا توجد مقاومة في العالم لم تتلقّ الدعم والتمــويل من قوى خارجية أو لم تستمد الإلهام العام من الخارج (الجزائر، فييتنام، فرنسا على سبيل المثال)، وخصوصاً حين يُقدم جزء من الشعب على التعامل مع المحتل أو المعتدي، أو حين يكون الــــبلد غــــير قادر على إنتاج أسلحته. لذلك لا يمكن نعت حزب الله في أي حال من الأحوال بالمـــنظمة الإرهابية أو بالميليشيا، لأن هذا التوصيف لا يتناسب إطــلاقاً مــع حقـــيقة حزب الــله على أرض الواقع.
5 ـ يجب حث جميع الطوائف اللبنانية والتيارات الطائفية على «التلبنن» الكامل وحصر العلاقات مع القوى الخارجية بالمستوى الخيري واللاهوتي أو الروحي واستبعاد الارتباط السياسي. هذا بالطبع يتطلب وقتاً طويلاً وجهوداً شاقة من جانب جميع الطوائف اللبنانية.
6 ـ ان أمين عام حزب الله هو بالتأكيد شخصية لبنانية فوق العادة. لذلك يجب النظر إليه على أنه ورقة رابحة وليس خطراً على لبنان. ومن الضروري سلوك الخط الجريء الذي شقه الجنرال عون والذي يقوم على الدخول في حوار معمق وغير أناني مع هذا الرجل.
في ما يتعلق بموقع لبنان على الخريطة الإقليمية: في ما يلي بعض النقاط المفصلية:
1 ـ إن التاريخ اللبناني المعاصر أي منذ الاستقلال حتى اليوم أثبت أن المصير المأسوي الذي قد يواجهه لبنان في حال تحوّل إلى دولة حاجز (Etat Tampon) هذا المصير الذي ترسمه له القوى الإقليمية والدولية يمكن مواجهته وفقاً للمبادئ الآتية:
أ‌. لا يمكن أن يكون لبنان إلى جانب الغرب وأن يؤيد أهدافه التي تقوم على الهيمنة الاستراتيجية على الشرق، حتى ولو كان الكثير من الأنظمة العربية تخدم هذه الأهداف من أجل الحفاظ على عروشها. والتجربة تفيد أنه كلما حاول لبنان سلوك هذا المسار والوقوف مع الغرب، يغرق في الفوضى (1956 ـ 1958 ومن ثم 1975 ـ 1982).
ب‌. يمكن للبنان أن يبقى منفتحاً بالكامل على ثقافة الغرب وعلومه من دون أن يضطر بالضرورة إلى تبني سياسة موالية للغرب في المنطقة.
2 ـ منذ أكثر من خمسين عاماً تقيم إسرائيل والولايات المتحدة حلفاً متيناً للسيطرة على الشرق الأوسط وتجريد العرب من حقوقهم الأساسية بعيش حياة كريمة، وهذا الواقع ينطبق على الفلسطينيين واللبنانيين. وفي حال وجود أية شكوك لدى البعض حول نيات الحكومة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، فيجب أن تتبدّد لأن غزو العراق والمصير المشترك للدول العربية يجب أن يحثّا كل لبناني مدرك للمسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه على عدم التعاطف مع السياسة الأميركية. لكن من البديهي أيضاً ألا يكون بإمكاننا أن نؤيد لا من قريب ولا من بعيد نزعة الهيمنة هذه بحجة الرغبة في إحلال السلام في لبنان، لأن هذه النزعة هي التي تتسبّب بإثارة الفوضى الداخلية.
3 ـ كثيرة هي المقالات التي حاولت الفصل بين الملف اللبناني والملف الفلسطيني ـ والصراع العربي الفلسطيني في الماضي ـ لكنها أخفقت جميعها لأنها كتبت بإملاءات من واشنطن وتل أبيب، لا بقلم الإرادة الوطنية الصلبة التي تجمع كافة القوى السياسية في البلاد. تذكروا جيداً أن السياسة الأميركية الإسرائيلية تجاه لبنان ترمي إلى سحقه وتحويله إلى بلد تابع (1984 ـ 1990)، وهذه السياسة لا تختلف حالياً عما كانت عليه في الماضي.
4 ـ يمكننا أن نندّد، أو أنّه من واجبنا أن نستنكر إقدام الدول العربية بما فيها سوريا، على التخلي عن لبنان وهو يرزح تحت ثقل المواجهة مع إسرائيل، لكن هذا الموقف لا يمكن أن يؤدي إلى تأمين استقرار بلدنا وحياده عن الصراع الموسّع الذي هو أمر مستحيل لسببين رئيسيين:
أ‌. إن 10% من السكان في لبنان هم من الفلسطينيين الذين يطالبون بحق العودة، والذين لا نرغب في توطينهم إلى الأبد في لبنان لأسباب عديدة من بينها التوازن الديموغرافي الطائفي.
ب‌. إن شريحة كبيرة من الشعب اللبناني (ليس الشيعة فحسب) معبّأة بقوة لمواجهة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة وعلى لبنان، كما إن هذه الشريحة تشعر بالتعاطف مع القوتين الإقليميتين اللتين تقاومان ـ على الأقل كلامياً ـ الولايات المتحدة. فهل سندخل في حرب أهلية من أجل إرضاء واشنطن والقضاء على كل فرصة لتحقيق السيادة الحقيقية؟
5 ـ نحن نقف على مفترق طرق حقيقي في تاريخ لبنان. فهل نريد أن ننجح أم سوف نستسلم لشياطين الفتنة ونحارب بعضنا بعضاً من أجل عيون الغرب الذي يدعم إسرائيل على نحو أعمى ويكتفي باستخدام لبنان لضمان أمن إسرائيل؟
أما في ما يتعلق بالإصلاحات الداخلية، ففي ما يلي النقاط الرئيسية التي يفترض أن يقوم على أساسها الحوار الوطني:
1 ـ الإصلاح الانتخابي أولوية مطلقة، إذ ينبغي أن يصوّت مجلس النواب على ضرورة إجراء إصلاح انتخابي ضمن المهل المناسبة التي تسمح بوصول نواب منتخبين وفقاً للقانون الأكثري وإنما على جولتين، ونواب منتخبين وفقاً للقانون النسبي.
2 ـ لا بد من إجراء انتخابات برلمانية جديدة استناداً إلى قانون انتخابي جديد.
3 ـ إن محاربة الفساد ومعالجة مشكلة المحاصصة هما على رأس الأولويات.
4 ـ يجب إعادة توجيه الاقتصاد اللبناني بما يضمن استخدام الاحتياط الهائل من الإنتاجية في البلد (موارد بشرية ومائية وغذائية) بهدف تحقيق نموّ اقتصادي سريع ومتنوع وقيام قطاعات قوية ذات قيمة مضافة عالية في الصناعة والزراعة والخدمات.
5 ـ يجب أن يترافق التنوع الاقتصادي مع سياسة إنماء متوازن بين كافة المناطق اللبنانية.
6 ـ إن إصلاح النظام المصرفي والمالي والضريبي أولوية مطلقة من أجل معالجة جمود الاقتصاد وافتقاره التام للمرونة وعدم قدرته على التكيّف مع متطلبات العولمة الاقتصادية.
(حلقة ثانية وأخيرة)
* وزير المالية الاسبق - مفكر وكاتب

تصويب:
في الجزء الأول من المقالة المنشورة البارحة استخدم مفهوم المجموعات الاثنية بدلاً من مفهوم الطوائف. فاقتضى التصويب.