كرم الحلو *
يكاد الخطاب السياسي العربي الراهن يختصر الصراع العربي الصهيوني في مسائل وقف العدوان وتبادل الأسرى ومراعاة الحدود القائمة، من منحى تسووي انهزامي مآله عقد اتفاقات سلام أو إبرام هدنات توفّر التعايش السلمي بين العرب واسرائيل بأي ثمن.
التعامل مع الكيان الصهيوني من خلال هذا التوجه الذي يكاد يطمس، في الآونة الأخيرة، أي توجه آخر باعتباره خطراً ومغامراً، يغفل السؤال المركزي الذي طرحته الصهيونية على العرب، والذي ليس في الحقيقة سوى سؤال الوجود، إذ إن ما بين العرب والصهاينة على عكس كل التصورات المتفائلة، صراع تناف وإلغاء، صراع وجود وكينونة، تنزل معه كل الصراعات الأخرى، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حضارية ثقافية الى مراتب ثانوية وهامشية، فما تريده الصهيونية وتخطط له وتهدف الى تحقيقه هو إلغاء كل مقومات الوجود العربي، هوية وقومية وكياناً.
ذلك ما فعلته وتفعله في فلسطين وفي كل مكان من العالم العربي أمكنها الوصول إليه، باقتلاعها المواطنين العرب من أرضهم، إن بقتلهم وتهجيرهم بالارهاب والمجازر المنظمة، وإن بفرضها عليهم واقعاً هو أشبه ما يكون بالعبودية. وذلك هو مشروعها الاستيطاني الإلغائي لكل العالم العربي، ولو تلبّس بدعاوى السلام المخادعة وخطابات الحوار والتعايش الكاذبة.
لكن الغريب واللافت أن تغيب هذه الحقيقة الفجّة والصارخة عن أذهان العرب اليوم، بينما كانت حاضرة بقوة في الفكر اللبناني قبل إنشاء دولة اسرائيل، وحتى قبل وعد بلفور المشؤوم عام 1917. ففي كتابه «يقظة الأمة العربية» الصادر في باريس عام 1905 حذّر نجيب العازوري من أن قيام دولة اسرائيل في فلسطين سيكون مثار صراع بين القوميتين العربية والصهيونية لا ينتهي إلا بقضاء إحداهما على الأخرى، وانه على نتيجة هذا الصراع سيتقرر مصير العالم أجمع.
في السياق نفسه كتب جبران تويني في جريدة المقطم 1923 «إن الأكثرية الساحقة في فلسطين ترفض سيادة الأقلية اليهودية. فالصهاينة حلّوا في هذا البلد بقوة السيف، وأُخرجوا منها بالسيف، وما سعيهم الى تأسيس دولة دينية في القرن العشرين الذي تقوم فيه الدول على أساس القوميات سوى أمر مخجل في عصر تسير فيه الإنسانية الى حياة جديدة».
ورأى أمين الريحاني بدوره في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، أن ما تطرحه الحركة الصهيونية على العرب والأمة العربية مسألة مصيرية سيتحدد على أساسها مستقبل وجودهم القومي، الأمر الذي يحتّم على العرب أن يستنفروا كل قواهم لمقاومته. فالقومية العربية ستكون مهددة في الصميم ويجب أن يكون ذلك حافزاً للعرب جميعاً للجهاد، أينما كان الجهاد لازماً، إن في فلسطين أو في لبنان أو في سوريا أو في العراق أو في شبه الجزيرة العربية. وعلى هذا الأساس فإن ما تطرحه اسرائيل من حق لها في فلسطين يتناقض مع التاريخ ومع الجغرافيا ومع الحقوق الوطنية والقومية للفلسطينيين، ويجعل من قيام هذه الدولة بحد ذاته إلغاءً للوجود الشرعي للشعب الفلسطيني، ويجب أن يهبّ العرب في كل أقطارهم لمواجهته والحؤول دونه بكل الوسائل.
ومن هذا المنظور الوجودي رأى فرج الله الحلو ان الخطر الصهيوني لا يقتصر على الاقتصاد والسياسة فقط بل يهدد الحياة الوطنية والقومية العربية كلها. ولهذا، التناقض بين العرب والصهيونية ليس تناقضاً طبقياً فقط، على ما يزعم الماركسيون الاقتصاديون، بل هو تناقض وجود شامل لكل طبقات المجتمع العربي ومقوماته من دون استثناء.
وكذلك ذهب ميشال شيحا في نظرته الى التحدي الصهيوني الى حد اعتبار مقاومة الصهيونية «قضية حياة وموت حقاً وواقعاً» لأن التسليم بمخططاتها الرامية الى وضع العرب أمام عبودية حقيقية أو هجرة شاملة، هو انتحار بحد ذاته وتنازل عن الحق في الوجود.
ويلتقي قسطنطين زريق مع شيحا في رؤيته الى الخطر الصهيوني. فهذا الخطر في رأيه هو الأشد هولاً وجسامة في التاريخ العربي لأنه يهدد كيان العرب وحقهم الطبيعي ويعرضهم للزوال والانهيار.
أما كمال الحاج المؤمن بقومية لبنانية في إطار أمة عربية، فقد حذر من أن انتصار المشروع الصهيوني يعني زوال لبنان من الوجود سياسياً وإثنياً وجغرافياً.
هل ثمة أفق لنهاية الصراع العربي الصهيوني على غير ما تصور هؤلاء الرواد مع إصرار الصهيونية على مشروعها الإلغائي للوجود العربي، قومية وكياناً وهوية وحضارة؟ هل ثمة توجّه أو نية لدى اسرائيل للتخلي عن إيديولوجيتها؟
إن التوجهات الاسرائيلية الراهنة لا تشي بشيء من ذلك، ولكن ساسة الأنظمة العربية يبدون كأنهم لم يقرأوا تنبيهات أولئك المتنورين المتقدمين وتحذيراتهم، أو كأنهم لا يعبأون بها فيما هم يتهافتون على سلام زائف لا بد من أن يدفعوا ثمنه من وجودهم عاجلاً أو آجلاً.
* كاتب وباحث لبناني