محمد الضيقة *
موافقة البرلمان التركي على مشاركة كتيبة من الجيش في قوات الأمم المتحدة «اليونيفيل» في جنوب لبنان بعد العدوان الصهيوني الأخير، فتحت الباب مجدداً على تساؤلات عن أبعاد هذه الخطوة واستهدافاتها، بعد إخفاقات سابقة لتأدية دور ما في المنطقة العربية. إن غياب تركيا الذي دام عقوداً عن الشرق الأوسط، اكتفت خلالها أنقرة بأحلامها الأتاتوركية بالالتحاق بأوروبا، يطرح أكثر من تساؤل. لماذا الآن هذه الحماسة التركية؟ وماذا عن إخفاقاتها السابقة وفشلها في الاستئثار بدور فاعل في قضايا الشرق الأوسط؟
صحيح أن تغييرات كثيرة حصلت في تركيا أبرزها وصول الاسلاميين الى السلطة، إلا أن من المبكر الكلام عن تغيير جذري في سياسات أنقرة الخارجية وخصوصاً تلك المتعلقة بالقضايا العربية. إن الملامح والاشارات الأولية للسياسات التركية تؤكد ان هناك شيئاً حصل وأن تركيا التي ما زالت تنتظر على أبواب أوروبا تستجدي الدخول إلى «جنة الاتحاد الأوروبي» من دون أن تلقى جواباً، وجدت في حالة الفراغ الكبير الناشئ في المنطقة فرصة سانحة أمامها لتأدية دور ما تستفيد منه وتوظفه مستقبلاً لتحقيق حلمها الأوروبي.
إن تركيا التي لم تيأس يوماً ولم تكلّ في سعيها الدؤوب منذ إعلان الجمهورية عام 1923 لتكون جزءاً من الغرب وأوروبا، لا تستطيع في مرحلة التحولات والتغييرات في الشرق الأوسط أن تؤدي دوراً حقيقياً ومؤثّراً أو أن تملأ فراغاً استراتيجياً من خلال مهمات أمنية في جنوب لبنان باعتبار ان أزمتها مع العالم العربي وشعوبه كبيرة ومعقدة لا تكفي لحلّها رغبة بعض العرب في استحضار دور تركي لمواجهة دور إيراني حسب ادعاء بعض المحللين. إن ملف العلاقات التركية ــ العربية فيه من التعقيدات والمشاكل العالقة الكثير وحلّه ليس بالسهولة التي يتصورها بعض النظم العربية إذ لا تكفي دعوتها إلى التقدم نحو المنطقة حتى تزول كل الخلافات مع العالم العربي وحتى تصبح أطماعها في المنطقة شيئاً من الماضي . إن السؤال الذي يفرض نفسه وفق ما يخطط له بعض النظم الرسمية العربية هو: هل حقاً يرغب كل العرب في حضور تركي مؤثر سياسي واقتصادي في المنطقة وبالتالي ماذا عن الموقف الصهوني؟
إذا استثنينا عامل مناهضة ما يدعوه الغرب الحرب على الارهاب الذي يجمع نظرياً بين تركيا واسرائيل، فإن امكانية التسلل التركي الى المنطقة تحت عنوان «اليونيفيل» دونه عقبات متعددة أبرزها أن الكيان الصهيوني على الرغم من وجود خلافات سياسية واقتصادية وأمنية بين البلدين، لن يقبل لتركيا بأكثر من دور ملحق وهامشي باعتبار ان القوة التركية في النهاية قوة اسلامية تثير الارتياب لدى الكيان الصهيوني وخصوصاً في ظل الحكم الجديد في تركيا.
أما بالنسبة إلى الموقف العربي فإن الدور التركي المطلوب من بعض الأنظمة لا يعني أبداً أنه بات مقبولاً على صعيد الأمة كلها، ودونه أيضاً عقبات قد يكون أبرزها الارتياب لدى العرب في نيّات أنقرة إزاء مياه «دجلة والفرات» وأطماعها في شمال العراق، إضافة الى التنافس مع السعودية وايران على زعامة الأمة الإسلامية بعد وصول الاسلاميين الى السلطة وإمساكهم بمقاليد الأمور. ان الزيارة التي قام بها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز الى أنقرة كانت لافتة لجهة التوقيت إذ تمت أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، ولجهة الاتفاقات التي وقّع عليها الطرفان، الأمر الذي يكشف عن رغبة سعودية بدور تركي في الشرق الأوسط لمواجهة ما تدعوه الرياض وحلفاؤها دور ايران وحلفائها.
ما بين الرغبة والواقع خروق كبيرة باعتبار ان قدرة تركيا نفسها على تأدية مثل هذا الدور فيما لو سلمنا بالدور الايراني معدومة، لأن أنقرة عاجزة عن ممارسة حضور فاعل ومؤثر وايجابي لاعتبارات كثيرة أبرزها: 1 ــ قصور الديبلوماسية التركية التي غابت أكثر من خمسين سنة عن الشرق الأوسط وتعاملت مع قضاياه وأزماته باعتبارها دولة من خارجه. 2 ــ ارتباطها بعلاقات سياسية واقتصادية وأمنية مع الكيان الصهيوني وضع تركيا دائماً في خانة أعداء القضايا العربية.
إضافة الى هذين العاملين هناك عوامل داخلية تواجهها أنقرة، أبرزها الاختلاف بين السلطة السياسية (الحكومة) والمؤسسة العسكرية ذات الباع الطويل في تقرير السياسات التركية وتوجهاتها. فالعسكر في تركيا على الرغم من صيغة التعايش مع السياسيين ما زالوا فاعلين وقادرين على قلب الأمور في أية لحظة يشعرون فيها بتهديد حقيقي لتركيا العلمانية أو لتركيا العضو الفاعل في الحلف الاطلسي والطامحة إلى دخول الاتحاد الاوروبي. هذا الاختلاف في الرؤى والتوجهات بين المؤسستين لا يمكن تسويته بين ليلة وضحاها، والتصويت في البرلمان التركي على مشاركة الجيش في قوات الأمم المتحدة لم يكن حاسماً بأغلبية كبيرة، فنسبة معارضيها كانت كبيرة اضافة الى موقف رئيس الجمهورية الرافض لهذه المشاركة.
صحيح ان تركيا كانت ولا تزال منحازة للاتحاد الاوروبي الا انها تبقى في النهاية مرتبطة بالشرق الأوسط من خلال عوامل التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة، ولكي يصبح دورها مقبولاً ويحظى بإجماع عربي لا بد لها من اجراء نقد لسياساتها السابقة والتخلي عن أطماعها وسلوك سياسة مستقلة غير خاضعة لإملاءات الولايات المتحدة التي أجهضت كل محاولات أنقرة للتقارب مع العالم العربي.
*كاتب وصحافي لبناني