عبد الإله بلقزيز *
لا جدال في أننا، نحن العرب، دفعنا غرامة باهظة على ما حصل من أحداث في اليوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. هجمات ذلك اليوم وحدها تستحق أن توصف بالمغامرة غير المحسوبة، ولو أن الذين قاموا بها يفاخرون العالم بقدرتهم وحدهم على إيذاء أميركا في عقر دارها، وأن يوقعوا فيها من الخسائر في بحر ساعة ما أوقعته فيها حركات مسلحة خلال سنوات. صحيح أن ضربتهم كانت موجعة مادياً ومعنوياً للولايات المتحدة. ولكن هل أدركوا كم دفعنا جميعاً: شعوباً ومجتمعات ودولاً ومقدّرات ومصائر، لقاء ما سموه «غزوتي نيويورك وواشنطن»؟ لنحتكم الى الأرقام مقروءة في ميزان الخسارات المقارن!
فقدت أميركا من مواطنيها ثلاثة آلاف وستمئة مدني تقريباً وفقدنا في العراق مئتي ألف انسان وأضعاف هذا العدد جرحى ومشوّهين. وفقدت أميركا برجين تجاريين، وفقدنا وطناً ودولة. وفقدت أميركا شعورها بالأمن، جوياً بشكل محدود، وغزتنا هي براً وجواً وبحراً لثلاثين ألف ساعة أو يزيد (منذ 20 آذار 2003) وما برحت قواتها أراضينا ومياهنا وأجواءنا حتى الآن... الخ! فأي تكافؤ هنا في الربح والخسارة يبرر لهم أن يروا في هجماتهم فتحاً عظيماً ينشر نعمته على المسلمين؟!
لا مرية في أن إيديولوجيا «الفسطاطين» قادت مجتمعاتنا العربية الى مهالك كانت في غنى عنها، وقدمت ذرائع مجانية لعدوانية أميركية جامحة زادت جموحاً وانفلاتاً من أي ضابط منذ وصول المحافظين الجدد الى السلطة في البيت الأبيض، وهي ــ حتى اليوم ــ لا تقترح على مجتمعاتنا إلا مزيداً من المعاناة: في الداخل، حيث تسقط أرواح بريئة ثمرة أعمال «جهادية» نقلت الحرب من «دار الكفر» الى داخل «دار الإسلام»! وفي الخارج حيث تتقاطر علينا حروب وحصارات من وراء سعار سياسي يجد في مُقاتِلة «الفسطاطين» وخلاياهم ألف سبب لقتلنا الجماعي تحت عنوان «مكافحة الارهاب»!
ويتصل بالنتائج الفادحة التي يرتّبها علينا جميعاً قتال غير متكافئ بين قوى «الجهادية الاسلامية» وآلة الحرب الأميركية، نتائج أخرى أبعد أثراً في رسم مستقبل علاقة العرب والمسلمين بالعالم. كلما اشتدت وطأة ضربات هذه القوى في العمق المدني الغربي ــ على نحو ما حصل في هجمات منهاتن وفي تفجيرات مدريد ولندن ــ رفع ذلك من معدل الفوبياء الجماعية لدى الغربيين من الاسلام والعرب، وكلما تغذّى مخيالهم الجماعي بالايحاءات التي تبعثها فيه تلك الصور النمطية المرعبة عن الاسلام والعرب التي اشتغلت الماكينة الاعلامية الصهيونية والمتصهينة والكولونيالية الجديدة في الغرب اشتغالاً طويل النفس من أجل ترسيخها في الذهنية العامة. وهي صور قد تنجو أحياناً فتبدو كأنها امّحت من الذاكرة، ولكن سرعان ما تستثيرها من جديد حوادث صدام من جنس تلك التي دشنتها ضربات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأول من يقع عليه عبء الشعور بها وعبء معاناتها، هو العرب والمسلمون المقيمون في المجتمعات الغربية الذين يتحوّلون سريعاً الى هدف مباشر لأنماط مختلفة من ردود الفعل السلبية التي بلغت أحياناً حدود الانتقام والاعتداء الفيزيقي.
وما أغنانا عن القول أن مثل هذه الهواجس المستبدة بالرأي العام تقدم مادة مثالية تستذرع بها السياسات الكولونيالية الاميركية كي تطلق جحيم حروبها على مجتمعاتنا وكياناتنا، وتبرر بها السياسات الدولية المساندة لواشنطن ــ كما في حالة السياسة البريطانية والأوسترالية والكندية حالياً والايطالية والاسبانية سابقاً ــ تحالفاتها العسكرية مع إدارة بوش في تلك الحروب. والأنكى والأدهى أن السياسات العدوانية تلك لا تستثمر مخاوف شعوب الغرب، بل تحظى أحياناً بدعم تلك الشعوب وبرلماناتها إذ تقدم لها نفسها بما هي ردّ مشروع من باب الدفاع عن النفس. وكم تبلغ الخفّة ببعض قادة تنظيمات «الجهادية الاسلامية» حين يوجّهون رسائل تهديد الى شعوب الغرب أو يحمّلونها مسؤولية سياسات حكوماتها! يتبرّعون لتلك السياسات بحجة إضافية لشرعيتها في نظر رأيها العام!
حتى نكون منصفين في توزيع المسؤوليات، لا بد من إبداء ملاحظة ابتدائية: تخطئ تنظيمات العنف الاصولية في فتح الحرب علينا من وراء حربها على أميركا. لكنها ليست سبباً للحرب، بل مجرد ذريعة. أميركا خاضت حروبها قبل أن يوجد الأصوليون. منذ كان القوميون واليساريون أصحاب شأن سياسي.
* استاذ جامعي - المغرب