ماجد عزام *
ما إن انقشع غبار الحرب واتضح عجز جيش الاحتلال عن تحقيق الانتصار على حزب الله على رغم الفوارق الهائلة في الامكانات والعتاد والتسليح والعديد وما إلى ذلك، وعندما اتضح حجم الأضرار التي تكبدتها الجبهة الاسرائيلية الداخلية ليس فقط على الصعيد الاقتصادي وإنما على الصعيد الاجتماعي والنفسي، ما إن اتضح كل ذلك حتى ضربت هزة عميقة من الإحباط واليأس الجمهور الاسرائيلي، طالت هذه الهزة كل المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية ووصلت إلى حد فقدان الثقة حتى بالنظام السياسي كله وتعالت الأصوات المطالبة بتغييره لعل وعسى يتمكن النظام الجديد من إصلاح ما أفسده الدهر والنظام القديم طبعاً.
أعراض فقدان الثقة واليأس والاحباط تجلت بمظاهر ومستويات متعددة، فعلى الجانب السياسي بدا كأن ثمة كفراً بالمؤسسة السياسية بأحزابها وتلاوينها المختلفة، والجزء الأكبر من الغضب والاحباط طال بالطبع حزب كاديما الذي صوتت له نسبة معتبرة من الاسرائيليين كحزب فتيّ وقائد قادر على إخراج اسرائيل من الوحل الفلسطيني وقادر على حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تفشّت خلال السنوات الأخيرة وأدت إلى تزايد الفجوات والانقسامات بين فئات المجتمع الاسرائيلي المختلفة، فإذا بحزب الأمل أو حزب «إلى الأمام» يقود اسرائيل إلى الوراء وإلى مزيد من الغرق ليس فقط في الوحل الفلسطيني وإنما في الوحل اللبناني أيضاً، ورشّ الملح على الجرح اللبناني الذي لم تشف منه اسرائيل حتى بعد ست سنوات من الانسحاب الأحادي من هناك. وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي قادت مغامرة كاديما غير المحسوبة إلى زيادة الأزمة الاقتصادية وتعميقها التي عبّرت عن نفسها في ترك الشريحة الضعيفة «الفقراء» في مواجهة صواريخ حزب الله وإجبارها على دفع ثمن حرب مجنونة سعت إليها قيادة فاقدة للثقة بالنفس لأجل تحقيق مكاسب شخصية وسياسية من حرب اعتبر هؤلاء الأغرار أنها نزهة وأنها مسألة أيام فقط يُتوّجون بعدها بأكاليل الغار والنصر. زلزال اليأس والاحباط والغضب طاول كذلك حزب العمل وزعيمه عمير بيرتس الذي وصل إلى زعامة الحزب، وخاصة بعد الانتخابات الأخيرة، على أجنحة برنامج اقتصادي اجتماعي تحدّث عن الاهتمام بالشرائح الضعيفة ورفع الحد الأدنى للأجور وتخفيض الموازنة العسكرية والأمنية لمصلحة التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي فإذا بزعيم الحزب ــ القائد الاجتماعي الثائر ــ يتحول إلى شريك في قيادة الحرب المجنونة ويفشل في استخلاص العبر المناسبة منها لا بل يحمل لواء تعويض الجيش من خسائره وزيادة موازنته لأجل الاستعداد للحرب المغامرة المقبلة على رغم أن هذا يعني ــ بغض النظر عن مغسلة كلمات بيريتس ــ أن لا فرصة ولا إمكانية لتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي ستتدهور وتزداد بؤساً وسوءاً في الفترة المقبلة. ثمة أمر آخر ساهم في تعميق الاحباط واليأس تجاه القيادة السياسية والمؤسسة السياسية بشكل عام، ويتمثل في فقدان وغياب البديل أو القائد إليه وقت الأزمات والشدائد، فالبدائل المتوافرة لا تقل سوءاً عن ثنائي أولمرت ــ بيرتس، وإذا كان الأمر يتعلق ببنيامين نتنياهو وإيهود باراك فقد نال كل منهما الفرصة وكانت النتيجة مأساوية سواء سياسياً أو أمنياً في حالة باراك، واقتصادياً أو اجتماعياً في حالة نتنياهو، ناهيك عن الغطرسة والغرور والعجرفة التي ميّزت تعاطيهما مع أركان المؤسسة السياسية سواء في الحكومة أو الكنيست أو البرلمان أو الأحزاب أو الكتل السياسية:
عدم وجود البديل النافع والمناسب للقيادة الراهنة فضح حالة الفقر أو القحط القيادي التي تعانيها اسرائيل، فبعد اسحق رابين وأرئيل شارون وهما آخر القادة من جيل الآباء المؤسسين ليس هناك قائد يمكن الاعتماد والركون إليه من الجيلين الثاني والثالث وخاصة بعد التجربة المرة للثنائي إيهود باراك وبنيامين نتنياهو ثم إيهود أولمرت وعمير بيرتس.حجم الاحباط واليأس وعمق الجرح تجاه القيادة والمؤسسة السياسية لا يُقارنا قياساً إلى الاحباط واليأس تجاه المؤسسة العسكرية قدس الأقداس وحتى الهيكل الثالث كما يبالغ البعض في توصيفها، فقد اتضح خلال الحرب اللبنانية أن الجيش لم يعد صغيراً ذكياً محوسباً بل كبيراً وغبياً وتقليدياً وتجلّت عورات الجيش في عجزه عن الاستخدام الصحيح لما بين يديه من مفردات القوة.
وكما لم يفشل فقط في هزيمة وتدمير حزب الله بشكل قاتل وإنما أيضاً في منع سقوط الصواريخ على العمق الاسرائيلي طوال شهر ونيف الأمر الذي لم يحدث طوال تاريخ دولة اسرائيل، تجلت صورة الجيش المهزوزة والمتردية كذلك في عجزه عن تأمين الغذاء والماء لمقاتليه ناهيك عن إخلاء الجرحى والمصابين الذين تركوا لمصيرهم تحت نيران حزب الله المكثفة والمركزة...
صورة الجيش تردّت أكثر وزادت إحباط الاسرائيليين ويأسهم بعدما امتلك قادة الجيش الوقاحة للمطالبة بثلاثين مليار شيكل ــ سبعة مليارات دولار تقريباً ــ نتيجة تعويض خسائر حرب لبنان والاستعداد للحرب المقبلة مع حزب الله. فإذا كانت الحرب مع حزب صغير، بالمعنى الكمي، يمتلك أدوات قتالية بسيطة ومتواضعة تحتاج كل هذه الموازنات، فما بالك لو كانت الحرب المقبلة مع دول وجيوش مجهّزة ومستعدة كما ينبغي، فهل يلتهم الجيش ويبتلع كل موازنة اسرائيل ما سيؤدي إلى انهيار حتمي وجدل في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
التراكمات والإحباطات والمعطيات السالفة الذكر لم تعبّر عن نفسها فقط في فقدان ثقة الجمهور الاسرائيلي بالمؤسسات السياسية والعسكرية ككل بل في فقدان الثقة بالمنظومة الحاكمة ككل، فتعالت الأصوات المطالبة بتحويل الحكم إلى نظام رئاسي بدلاً من النظام البرلماني المعمول به حالياً، وهذا الأمر يستلزم بالضرورة تغييرات عميقة في بنية الأحزاب ونمط التصويت وشكل الانتخابات ونظامها، وهذا الأمر يستلزم وقتاً وجهداً وأكلافاً باهظة لا تسمح بها الظروف والمخاطر المحيطة باسرائيل حالياً، ناهيك عن أن الأمر ليس مضمون النجاح وخاصة بعدما طُبِّق بشيء مشابه منذ عقد تقريباً عبر اتباع نظام الانتخابات المباشر لرئاسة الوزراء الذي تم العدول عنه بعدما اتضح أنه فاقم من الأزمات والمعضلات الاسرائيلية ولم يخفف منها.
الحلول والعلاجات الاسرائيلية الممثلة في تغيير النظام أو إجراء تعديلات كبيرة داخل المؤسسات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية ليست أكثر من مسكّنات وحلول ظاهرية وشكلية فالمطلوب تغيير العقلية والذهنية والمقاربات لمشاكل اسرائيل وأزماتها التي تتمركز نزعة القوة والاحتلال والهيمنة في القلب منها. ما لم تتخلّ إسرائيل عن النزعة التوسعية، ولم تنسحب من الأراضي الفلسطينية وتعط الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم كاملة السيادة والاستقلال، ولم تنسحب من الأراضي العربية المحتلة كافة، فإن المشكلة الوجودية الاسرائيلية ستزداد حدة وعمقاً، وإذا كانت حرب صغيرة مع تنظيم مقاوم كشفت كل هذا القصور والكم الكبير من الثغرات، فما هي الحال مع حرب حقيقية بكل ما للكلمة من معنى تشترك فيها دولة عربية أو إسلامية أو أكثر .
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام