وهيب معلوف *
في معرض تعليقه على حرب اسرائيل التدميرية على لبنان، رأى الصحافي الأميركي ألكسندر كوكبرن أن هذه الحرب إنما تؤكد بجلاء أن القيادة السياسية الاميركية الراهنة تعاني جهلاً مطبقاً يحول بينها وبين رؤية الواقع. ويلاحظ كوكبرن أنه من وراء متاريس يحرسها تحالف من الكذابين بدءاً من رجل الأعمال روبرت مردوخ مروراً بصحيفة نيويورك تايمز والإعلامي المحافظ بيل أوريلي وانتهاءً بقناة «بي. بي. إس.»، أصبحت أميركا محجوبة بالكامل عن رؤية الحقيقة. ويخلص كوكبرن الى انه «بوجود بوش ورايس وواضعي السياسة الراهنين والحاشية المحيطة بهم»، أصبحت «الواقعية الرعناء» هي السائدة، والمصطلح الأخير ــ «الواقعية الرعناء» ــ أطلقه عالم الاجتماع الأميركي سي. رايت ميلز عام 1958 عندما نشر كتابه «أسباب الحرب العالمية الثالثة»، وهو العام نفسه الذي قام فيه الرئيس الاميركي دوايت أيزنهاور بإرسال قوات مشاة البحرية «المارينز» الى لبنان لدعم حليفه اللبناني الرئيس كميل شمعون في معركته ضد خصومه المحليين المدعومين آنذاك من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، اعتبر ميلز في كتابه ان النخب الحاكمة في الولايات المتحدة تعبّر عن تفوّقها على عامة الشعب بإعلانها عدم انخداعها بالخطاب المثالي وادعاءها التأقلم والتكيف مع الوقائع والمتغيرات الصعبة للسياسة، إلا ان هذه النخب كما شرح ميلز تصبح سجينة ادعاءاتها الضيقة، فلا تعود ترى حلولاً لمشاكلها مع الآخرين سوى اختلاق الحروب. وقد سمى ميلز عدم القدرة على التفكير بحلول خارج إطار اللجوء إلى القوة «الواقعية الرعناء». من المفيد اليوم العودة الى كتابات ميلز لكونها من أولى الكتابات التي لحظت وصول طلائع نخب جديدة الى السلطة في الولايات المتحدة.
اعتبر ميلز، الذي كتب في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، أن أراضي الولايات المتحدة تشكل، لأول مرة في تاريخها، كتلة مجتمعية مرتبكة، فإذا كان الاقتصاد في السابق عبارة عن تجمّع وحدات انتاج محلية أو إقليمية الطابع، فإنه الآن مسيّر في اتجاه خدمة حاجات بضع مئات من الشركات الكبرى. وإذا كانت السلطة السياسية، يوماً، مجموعة في الولايات التي يربط بينها الكونغرس، فإنها الآن تخضع لرغبات موظف رسمي نافذ. وإذا كانت المؤسسة العسكرية يوماً ممانعة لمبدأ الجهوزية التامة، فإنها اليوم تستهلك نصف الموازنة العامة، وقادتها وجنرالاتها يجلسون في مكاتبهم في واحدة من أكبر بنايات العالم.
الأدوات السلطوية التي تمتّعت بها هذه الاحتكارات الثلاثة ــ الإنتاج، الإدارة السياسية، والعنف ــ تضمّنت القدرة على منع القضايا والأفكار من الوصول الى الكونغرس في الدرجة الأولى. واذا كان معظم الأميركيين لا يزالون يؤمنون بأن النقاش في الحيّز العام يوجّه القضايا السياسية، فإنه «علينا الاعتراف اليوم بأن هذا التوصيف ليس إلا محض خرافة»، كتب ميلز، «إذ إنه توصيف لا يصلح حتى ليكون نموذجاً تقريبياً لكيفية عمل نظام السلطة الاميركي».
بحسب ميلز، مثّلت مجموعات الرجال الصغيرة الواقفة على رأس الاحتكارات الثلاثة صعوداً لنخب جديدة عكست بسلوكها وخصائصها الثقافة اللاديموقراطية للمؤسسات التي تديرها. فالشركات الكبرى تختار موظفيها فقط من كليات إدارة الأعمال المرموقة، وتفرض برامج تدريب تتطلب طاعة شديدة من الموظفين.
والمؤسسة العسكرية تختار جنرالاتها وقادتها من معاهد الخدمة وتغرس فيهم «شعور الجماعة» عبر عزلهم عن الحياة التشاركية للبلاد. وفي معظم الأحيان، لم تعد برامج التدريب المحلية تشكل جواز مرور الى المناصب الادارية للدولة، فمن بين الموظفين الاعضاء في ادارة الرئيس أيزنهاور، وجد ميلز ان عدداً لا يستهان به من هؤلاء لم يخضع يوماً لمبدأ الانتخاب على أي من المستويات.
أشار ميلز الى طبيعة العلاقات التبادلية بين وزارة الدفاع والبيت الأبيض والشركات الكبرى، بحيث إن المناصب الثلاثة الأكثر ارتباطاً بالسياسة العامة ــ وزارات الخارجية والمال والدفاع ــ كان يشغلها مديرون تنفيذيون سابقون للشركات الكبرى، فيما كان رئيس الجمهورية جنرالاً سابقاً. وقد حاجج بأن التوجه الموازي في السياسة الخارجية يتفرد به «مجمع عسكري ــ مالي» ويقضي بتجاهل الأمم المتحدة فيما يبقى الكونغرس محتفظاً فقط بصلاحية إعطاء الثقة أو حجبها. تصبح السياسة الخارجية آنذاك بمثابة العقيدة التي تُلقّن للجمهور عبر وسائل الاعلام. «لأول مرة في تاريخ أميركا، الرجال في السلطة يتحدثون عن حالة طوارئ من دون أية نهاية في المدى المنظور»، كتب ميلز منذ نصف قرن. « هؤلاء الرجال هم الواقعيون الرعناء: باسم الواقعية أسسوا لواقع توجّسي يخصّهم وحدهم».
«في الواقعية الرعناء»، كتب ميلز في مقطع لا يزال بالغ التأثير بعد نحو نصف قرن على صدوره، «يتحد خطاب أخلاقي طنّان مع انتهازي يزحف وسط مخاوف وطلبات كثيرة مبعثرة.. ويحل توقع الحرب الكثير من مشكلات الواقعيين الرعناء وبدلاً من الخوف المجهول والقلق بلا نهاية يفضل بعض رجال الدوائر العليا تبسيط كارثة معروفة.. وهم لا يملكون حلولاً لتناقضات الشرق الأوسط وأوروبا والشرق الأقصى وأفريقيا إلا بإنزال قوات المارينز..». وإذا كان ميلز، قبل خمسين سنة، يستبصر تحالفاً صارخاً بين الشركات الكبرى والمؤسسات العسكرية والحكومة الفيديرالية يقوم على التأسيس لـ«اقتصاد حرب» يدرّ الأرباح الطائلة على الشركات، إلا أن رؤيوياً مثله لم يكن ليتصور مدى صحة توقعاته بعد وقوع أحداث 11 أيلول وبدء «الحرب على الارهاب».
بعد وقوع أحداث 11 أيلول الارهابية، تبلورت مقومات استراتيجيا أميركية جديدة تستند إلى إيمان راسخ بوجوب بناء قوة عسكرية لا منافس لها تضمن سيادة نظام القطب الواحد، والقيام بعمليات استباقية ضد أي تهديد متوقع وإعطاء الأولوية لمفهوم السيادة والامن القومي لتبرير التدخل العسكري في أي مكان من العالم وإجراء مقاربة جديدة للقوانين والاتفاقات الدولية بقصد تقليص صلاحياتها لمصلحة التدخل الأحادي الطابع.
ارتسمت الخطوط العريضة لهذا المشروع الامبراطوري الجديد عبر تحالف يضم مجموعة من المثقفين والشخصيات السياسية ورجال الأعمال المعروفين جميعاً باسم «المحافظين الجدد».
على المستوى السياسي، أمسكت هذه المجموعة بالقرار عن طريق توسيع نفوذ المؤسسة العسكرية بحيث أصبح البنتاغون المركز الأساسي في اتخاذ القرارات السياسية. هُمّش العمل الدبلوماسي نتيجة لذلك، وتم تجاهل القوانين الدولية والأمم المتحدة في «حروب استباقية» من أفغانستان الى العراق، فيما نشأت في الداخل «حقيقة رسمية» يتم بثّها في الــــنفوس والـــــترويج لهــــا عبر وسائل الاعلام.
تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة تراجعاً في دعم الرأي العام لمزاعم «الحرب على الإرهاب» التي يطلقها الرئيس بوش، وبات اليوم عدد أكبر من الأميركيين يدرك أن «الحرب على الارهاب»، كمسوغ لشنّ الحروب، هي محض هراء مضلل. «لكن هل حصل تراجع في العسكريتاريا الاميركية الناشطة نتيجة هذا الإدراك؟» يسأل الناقد الاعلامي الاميركي نورمون سولومون. وهو سؤال يفضي بنا الى السؤال الأكثر راهنية وإثارة للقلق: هل يقع الأسوأ وتصدق نبوءة سي. رايت ميلز بالنسبة إلى النزاع على الملف النووي الايراني، أو أنه لا يزال هناك مكان لديبلوماسية تؤدي دورها في إيجاد مخرج سلمي للنزاع؟
* باحث لبناني