محمد سيد رصاص *
أتى تجدد السيطرة السورية على لبنان في 13 تشرين الأول 1990، ومؤتمر مدريد، على خلفية تفاهم بين الاقليمي والدولي. جاء حصيلة تشكيل تحالف 1990 بعد غزو الكويت ضد صدام حسين، فيما رأينا الولايات المتحدة، بعد احتلال بغداد، تتجه إلى إعادة النظر بالأدوار الاقليمية لدول المنطقة الرئيسية في ضوء مجيئها المباشر العسكري ــ السياسي إلى قلب المنطقة عبر احتلال العراق.
جاء القرار 1559، في 2 أيلول 2004، ليعبّر عن توجه أميركي جديد حيال الوجود السوري في لبنان يختلف عما كان قد حصل في عام 1990 أو بين عامي 1976 ــ 1982، إذ أعطت الملامح الأولى لذلك التوجه الأميركي الجديد مطالب الوزير باول من دمشق، أثناء زيارته لها بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد، ليأتي ذلك القرار الدولي(الذي أتى بقوة دفع واشنطن وباريس بعد أن طوت العاصمتان خلافاتهما أثناء الأزمة والحرب العراقيتين) معبّراً عن رؤية أميركية جديدة لدور دمشق في المنطقة، يختلف عما كان عليه حصيلة التوجه الأميركي الذي وُجد منذ أيام كيسنجر والذي قاد(عبر تسويات 1974 ــ 1979) إلى عزل مصر عن شؤون آسيا العربية، وحصيلة التوجس الغربي من مطامح العراق الإقليمية.
ربما كان ذلك التوجه الأميركي الجديد قد اكتسب قوة دفعه الكبيرة من عدم التعاون السوري مع واشنطن حيال العراق المغزو والمحتل(بخلاف ما رأينا من طهران) ليصار إلى تدفيع دمشق فاتورة سياستها العراقية في بيروت ــ إلا أن من الواضح أن ذلك كان يعبر عن توجه استراتيجي أميركي حيال المنطقة، ولا يتعلق بحيثيات حصلت هنا أو هناك بين دمشق والقطب الواحد للعالم الذي أصبح «جاراً شرقياً» لسوريا، وقد كان تضمين القرار 1559 فقرات تتعلق بسلاح حزب الله وسلاح الفلسطينيين في لبنان، مؤشراً إلى انه يتضمن رؤية أميركية هي أبعد من طريق دمشق ــ بيروت لتصل إلى المنطقة الممتدة بين كابول وغزة.
قاد ذلك إلى جعل لبنان ساحة للمجابهة بين الاقليمي والدولي، في الفترة الفاصلة بين تاريخين، أي 2 أيلول 2004 و26 نيسان 2005 يوم خروج القوات السورية من لبنان. وقد كانت العوامل الداخلية اللبنانية التي أتت حصيلة تراكمات سلبية نتجت من الأداء السوري في لبنان، عاملاً مساعداً للدولي ضد الإقليمي، وسط سلبية طهران والأوضاع الفلسطينية الناتجة من وفاة الرئيس عرفات، إلا أن ما جرى في صيف وخريف 2005 قد بيّن أن نفوذ سوريا في لبنان لا يتعلق بـعنجر، أو يتحدد بها، وإنما الأمور تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير(وهذا موجود منذ أيام رئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري في الأربعينيات)، حيث لم تكن مجريات الأحداث اللبنانية في النصف الثاني من ذلك العام عاملاً مساعداً للدولي ضد الاقليمي، على الرغم من «مطرقة ميليس»، وإنما العكس، إلا أن ما وضع الأمور أساساً على سكة التهدئة بين دمشق وواشنطن ليس توازناً محدداً وصلت إليه الأوضاع اللبنانية الداخلية عبر استقطاباتها المتحددة بين محوري دمشق ــ طهران والمحور الدولي، وفق تسمية السيد وليد جنبلاط للمحورين، وإنما ما جرى في غرب العراق أثناء انتخابات 15 كانون الأول 2005 ودور دمشق في إقناع القوى الفاعلة هناك بالمشاركة في الانتخابات أو بعدم عرقلتها، وقد ظهرت فاتورة ذلك في فيينا وعند ميليس.
بالمقابل، كان استئناف طهران برنامج تخصيب اليورانيوم في يوم 8 آب 2005، بعد قليل من انتخاب الرئيس نجاد، مؤشراً على استغلال الايرانيين للصعوبات الأميركية في العراق ولبنان، بالقياس إلى اتفاق وقف التخصيب الذي تزامن، في شهر تشرين الثاني 2003، مع وصول التعاون الأميركي ــ الايراني إلى الذروة مع اعتراف ايران في ذلك الشهر بـ«مجلس الحكم العراقي»: في هذا الإطار، يُلاحظ أن المبادرة الهجومية في الأزمة الإيرانية ــ الأميركية لم تكن في أيدي واشنطن، كما جرى من قبلها حيال بغداد في 2002 أو تجاه دمشق في صيف 2004، وإنما أتت من الايرانيين، وإن مجريات أمور الأزمة قد تحدَّد الكثير منها عبر تخبّطات أميركا العراقية وفوز حماس وفشل قوى 14 آذار اللبنانية في تحقيق أجنداتها، لتصل إلى منحى من الواضح فيه أن الإقليمي قد فرض الكثير من جدول أعماله على الدولي، سواء من حيث ما يتعلق بالموضوع النووي أو من حيث القبول الأميركي المبدئي بدور اقليمي رئيسي لطهران، وقد كانت المسارعة الأميركية في شهر نيسان الماضي إلى الموافقة على اقتراح السيد عبد العزيز الحكيم إجراء مفاوضات أميركية ــ ايرانية حول العراق، أحد الملامح الرئيسية لهذا القبول.
من الواضح الآن، بعد فشل حرب 12 تموز التي شنتها اسرائيل بتفويض من الدولي، أن الإقليمي ممثلاً بطهران ودمشق، قد حقّق انتصاراً كبيراً على الدولي، يمكن تلمّس ملامحه من طريقة رد ايران على القرار 1696، وفي الكرة الكبيرة التي رمتها طهران في وجه الولايات المتحدة عندما فرضت، عبر مصنع آراك للمياه الثقيلة، دخولها إلى النادي النووي العالمي، وهو شيء لا يمكن عزله عن المناخ الجديد الذي نتج من الحرب الأخيرة، فيما من الواضح أن الجولان قد أصبح، بعد 14 آب 2006، على رأس جدول أعمال عملية تسوية النزاع العربي الاسرائيلي.
هل ستتجه الأمور إلى تكرار ما جرى في عامي 1982 و1983 في لبنان، لمّا هُزمت واشنطن المتجهة عبر استخدام اسرائيل وقوى لبنانية محددة إلى قلب أوضاع ما بعد الدخول العسكري السوري للبنان في حزيران 1976 الآخذ ضوءاً أخضر أميركياً آنذاك، أمام دمشق وطهران والقوى اللبنانية والفلسطينية المتحالفة معهما؟ ثم: هل الاقليمي والدولي سيصلان إلى حلٍ وسط، كما جرى في لبنان بين الولايات المتحدة وسوريا عبر محطتي الطائف و13 تشرين أول 1990؟ أو الولايات المتحدة ستتجه إلى عدم القبول بالوقائع الجديدة مفضّلة الصدام والتصعيد مع الإقليمي؟.
* كاتب سوري