وليد شرارة
مع نهاية الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، دفعت نشوة الانتصار التي سادت في أوساط أنصار «ديمقراطية السوق»، وهو مفهوم ابتدعه أنطوني لايك، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون، بعضهم الى الاعلان عن نهاية التاريخ وعن أن عقد التسعينات سيكون عقد التسويات الكبرى التي ستنهي الصراعات القومية الدامية الموروثة من حقبة الحرب الباردة وتؤسس «للعولمة السعيدة». وحسب العقيدة الليبرالية، التي هيمنت على المستوى الأيديولوجي في تلك الفترة، فان آليات وديناميات السوق العالمي كانت كفيلة بازالة آثار هذه الصراعات وبخلق شبكة مصالح ضخمة ومشتركة بين فرقائها وكذلك بتجسير الهوة المتزايدة بين الشمال والجنوب وبين الفقراء والأغنياء على مستوى كل بلد وباجتراح معجزات أخرى كثيرة يطول الحديث عنها. وقد عززت التطورات السياسية في أكثر من منطقة من العالم قناعة قطاعات لا يستهان بها من المثقفين «المستنيرين» بصدق وعود الليبرالية المعولمة. فالتسوية التاريخية التي تم التوصل اليها في جنوب أفريقيا، والتي أدت فعلا الى الغاء نظام الفصل العنصري، وانطلاقة «عمليات» تسوية في ساحات شهدت صراعات مزمنة كايرلندا وكولومبيا والشرق الأوسط اعتبرت جميعها شواهد على صدق هذه الوعود.
لا يمكن فصل مشروع اعادة اعمار لبنان الذي حمله الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورؤيته لوظيفة هذا البلد الاقتصادية والسياسية على المستويين الاقليمي والدولي عن السياق العالمي السائد آنذاك وعن اعتقاد راسخ بقرب تسوية الصراع العربي-الاسرائيلي. تعثرت عملية التسوية بعد ذلك ومن ثم انهارت بسبب «جذرية» الاستراتيجية الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وهي استراتيجية «ابادة سياسية» حسب عالم الاجتماع الاسرائيلي باروخ كيمرلنغ تسعى، تحت مسوغات عدة وبوسائل مختلفة، الى تدمير مقومات وجودهم كشعب، من جهة، وبسبب طموحات اسرائيل بالهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية على المنطقة من خلال مشروع «الشرق أوسطية» من جهة أخرى. ولا شك أن التماهي الأميركي مع الاستراتيجية والطموحات الاسرائيلية قد ساهم أيضا في القضاء على عملية التسوية. تداعيات هذه التحولات الهامة في المشهد الاقليمي على مشروع الاعمار كانت هائلة وفرضت نوعاً من اعادة التكيف على هذا الأخير من خلال ما سمي بصيغة التكامل بين الاعمار والمقاومة. التعايش بين المشروعين، مشروع الاعمار ومشروع المقاومة، لم يكن بديهيا ولا سهلا. فهما يحملان فهما مختلفا، ان لم يكن متناقضا، لطبيعة الصراع الدائر في المنطقة ولموقع لبنان منه ولمآله المطلوب. لكن موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية فرضت على قوى المشروعين التعايش ومن ثم التعاون. وقد برز هذا التعاون بشكل جلي خلال مواجهة العدوان الاسرائيلي على لبنان في نيسان 1996 عندما تكامل الى حد ما صمود المقاومة مع الجهود السياسية والدبلوماسية التي بذلها الرئيس الشهيد لافشال أهداف العدوان.
انهارت عملية التسوية وبدأت دول المشرق العربي تتحول، منذ اعلان الولايات المتحدة الحرب على الارهاب، الى ساحة مواجهة مفتوحة. وجاء غزو العراق ليجعل من الولايات المتحدة قوة «شرق أوسطية» بامتياز تعمل على اعادة صياغة هذه المنطقة بالتدخل العسكري المباشر أو بالتلويح بالحرب وبتكثيف الضغوط السياسية والاقتصادية ومحاولة اثارة النعرات الطائفية والاثنية في داخل هذه الدول. وبعد أفغانستان والعراق، جاء دور لبنان تمهيدا لعزل سوريا وضرب ايران. لم يعد ممكنا اليوم بالنسبة لهذا البلد أن يختار بين أن يكون هانوي أو هونكونغ كما كان يحلو للنائب وليد جنبلاط أن يقول. عليه الاختيار بين الاستسلام الكامل للشروط الأميركية-الاسرائيلية أو الاستعداد، عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، لمواجهة طويلة ومريرة. ولى عصر التسويات الكبرى وحكوماته وأوهامه.