علي الشامي *
قبل ان ينجلي غبار المعارك وتنقشع غيمة الحلّ الديبلوماسي وتزول رائحة البارود والدمار، وقبل أن تنتهي عملية سحب الشهداء من تحت الانقاض وتشييعهم في مدافن تليق بهم، وقبل أن نحدّق في هول المأساة وفرادة الصمود والمقاومة والانتصار، قبل أن يحدث كل هذا، أدهش اللبنانيين «خطاب» يدعو الى نزع سلاح المقاومة تمهيداً لاستكمال سيادة الدولة على الوطن، وذلك في لحظة تسمح بتماثل الخطاب مع «فحيح الافاعي» وهي بصدد الانقضاض على ضحيتها، في غفلة منها ومن الواقع ومن كل اعتبار آخر؟
وبالرغم من ان «الفحيح» قريب الى الصمت، فإن صراخ اصحابه ثقب جدران الحياء والوطن في آن. ومع انه لم يكن مفاجئاً في توقيته، اذ سبق العدوان الأخــــير ورافقه بخجل قبل أن يدوي مجدّداً متسلحاً بقرار دولي ومدد عربي.
وفي هذا السياق، تندرج دعوة حزب الله ومقاومته الى دخول جنة الدولة، ترافقها دعوات اخرى إلى اثبات «لبنانيتهما»، باعتبار أن حركة امل قد سبق لها أن اثبتت «لبنانيتها»، وإلى التخلص من تبعيتهما للمحور السوري ــ الايراني، وضرورة اهداء النصر «الشيعي» الى طوائف العيش المشترك لا الى دولة المذهب الواحد؟
تكشف هذه المضامين الحقيقية للخطاب اللبنانوي ــ السيادوي المتجدد، ما توارى في عباراته وأسئلته الملغومة، وتظهر، اكثر من اي وقت مضى، ثنائية المفارقة اللبنانية الراهنة. وهي ثنائية شديدة الكثافة والخطورة، الى درجة يكاد اصحاب الخطاب انفسهم يظهرون وكأنهم مجرد صدى لأصوات آمرة حطّت في آذانهم من وراء المحيطات. وهكذا تتوالى الثنائيات بدون إنعام نظر وتدقيق في العبارات والخيارات: ففي مقابل الدولة التي تقوم على أساس نزع الخطر الاسرائيلي الجاثم على صدر الوطن، تأتي الدعوة الى دولة تقوم على اساس نزع سلاح المقاومة المدافعة عن الوطن نفسه؟ وفي مقابل خطاب يشدّد على «وطنية» المقاومة والانتصار، تأتي طائفية تشدد على «شيعية» المقاومة والانتصار، وهي طائفية تذكّرنا بماض قريب عندما رأى البعض الى الاندحار الاسرائيلي في أيار سنة 2000 بما هو انتصار «شيعي»، لا ناقة لباقي اللبنانيين والعرب فيه ولا جمل. وفي مقابل وصاية سورية مرفوضة وثقيلة الحضور، يأتي الترحيب بوصاية اميركية مقبولة وخفيفة الظل والوطأة. وفي مقابل الانضواء في اطراف محور الممانعة السوري ــ الايراني، يأتي التبشير بفوائد الانضواء في محور الديموقراطية والحرية بقيادة الولايات المتحدة الاميركية صاحبة السجلّ الباهر في دعمها للديموقراطية والحرية وحقوق الانسان وحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها... وفي مقابل هوية وطنية جامعة تقوم على وطن حقيقي يبحث عن «دولة» تصونه وتحميه، تأتي هوية وطنية ملتبسة ومتعددة تتوارى خلف دولة ــ مزرعة تبحث عن «وطن» تحميه وتصونه.
ويمكن أن نسترسل في تعداد ثنائيات المقاومة اللبنانية الراهنة، وبعضها يغوص في اعماق المنازعات الطائفية واستقوائها بمحاور خارجية غالباً ما انتقصت من وحدة الوطن وأنموذج لبنان ــ الرسالة، إلا اننا نكتفي بهذا القدر المخيف من الثنائيات التي لم تفارق لبنان الكبير منذ ولادته سنة 1920 حتى اليوم. وبالتالي، فإن ما يلفت الانتباه في خطاب الدعوة الى الدولة ونزع سلاح المقاومة، ليس في أنه لم يتجاوز الثنائيات المذكورة بقدر ما يستبطنها ويعمل على تأجيج مفاعيلها.
وإذا لم يكن الامر كذلك، فلماذا تعالى خطاب الدولة والدعوة الى الانخراط فيها على ألسنة من تبرأوا من اعمال المقاومة واعتزلوا بأنفسهم عن نتائجها، وسارعوا الى خطابهم ولمّا تتوقف قعقعة السلاح بعد؟ هل الأمر مجرد ضرب الحديد وهو حام أم أنّه صبّ للزيت على النار لمواصلة البحث عن بدائل قادرة على تغيير موازين القوى المائلة لغير مصلحة اصحاب الخطاب المذكور؟
وفي هذا السياق، تأتي دعوة حزب الله والمقاومة إلى الخروج من دولتهم التي اقاموها خارج الدولة وداخلها، وتسليم حالهم وأحوالهم الى الدولة الواحدة السيدة، الحرة والمستقلة. بيد أن اصحاب الدعوة لم يسألوا أنفسهم عن طبيعة الدولة التي يطلبون من حزب الله ومقاومته دخولها. او بالأحرى لماذا لا يسألون عن الدولة التي تليق بالمدعوين اليها؟ وهذا يعني أن الدعوة، من اساسها، مغلوطة، هذا اذا لم تكن مغرضة. فحزب الله، خاصة، والشيعة عامة، ليس خارج الدولة بقدر ما يحفر في داخلها لكي تصبح دولة ناجزة جديرة بالوطن وأهله. ولأنه كذلك، ربما تدعوه إلى تغيير مفهومه عن الدولة القادرة والعادلة، ورمي سلاحه على ثغور الوطن ليتنعّم اعزل مسالماً، بما تجود به عليه الدولة من حصص ومنافع. باختصار، تدعوه الى التخلي عن مسؤولية الدفاع عن الارض والاهل والوطن، ليقطف ثمار قيادته للطائفة. وبالتالي، فإن السجال الراهن حول سلاح المقاومة وسيادة الدولة، وهي ما هي عليه، يتطلب مقاربة تاريخية لجدلية العلاقة بين الدولة والشيعة، ولا سيما ان تخصيص حزب الله بالدعوة يستبطن حرص «انتفاضة الاستقلال» او «الاكثرية الحاكمة» على فك العزلة التي اوقع الشيعة انفسهم فيها وشطحوا بعيداً عن نزوات وأهواء وتطلعات البقية الباقية من اللبنانيين الملتئمين، بقدرة قادر، في دولة ذات ادارة مفعمة بالكفاءة والنزاهة والعدالة واحترام القانون، وهوية وطنية جامعة مانعة وسيادة غير منقوصة وحدود حصينة محصنة؟
وفي مقاربة تاريخية مكثّفة، يمكن القول إن الدولة اللبنانية الراهنة هي وريثة الدولة التي خرجت الى الحياة بعد مخاض فرنسي وإلحاح ماروني، وجعلتها قائمة على ثلاثة اقانيم: الطائفية السياسية، الهوية المائعة والسيادة المنقوصة. بمعنى أن راهنيتها ووراثتها يرمزان الى محاولة الالتفاف على تعديلات الطائف بما يعيد انتاج الدولة ذاتها مع تغيير في توصيف الطرف المهيمن على قرارها.
- الطائفية السياسية:
لم يتأخر «الشيعة» في اكتشاف أن دولة لبنان الكبير، التي انتزعتهم من محيطهم العربي الواسع، لم تكن دولة بقدر ما كانت «مزرعة»، او بالاحرى «غابة» يفترس القوي فيها الضعيف، وبالتالي، فرضت عليهم، لكي يكونوا جديرين بالانتماء الى الدولة أحد امرين: إمّا ان يظلوا ضعفاء ويقبلوا بما يُنعم به عليهم الاقوياء، او أن يتشكّلوا في طائفة على غرار الآخرين، وينطقوا كما ينطقون وينظروا كما ينظرون: المزرعة في الحصص، والغابة في المنازعات الاهلية.
وبهذا المعنى، قامت الدولة على الهيمنة الطائفية والامتيازات فأفرزت نمواً لامتوازناً في كل شيء، ومثلما افرزت الازدهار في المركز (العاصمة وجبل لبنان) أنتجت الحرمان والتهميش والفقر في الاطراف، وبدل أن تكون دولة ــ وطناً، اسفرت عن سلطة تعميق للانتماءات والمنافسات الطوائفية والمناطقية. وهكذا وجد الشيعة انفسهم في عراء الدولة وفي مواجهة مفاعيل الطائفية السياسية. فكانت النهضة اقوى منهما معاً. ولم تنته مرحلة الستينيات من القرن الماضي، الا كان الشيعة قد انتقلوا من هامش الدولة الى الطرق القوي على ابوابها. وكما اجهضت الزعامات الطائفية، المارونية خاصة، تجربة الشهابية في محاولتها صياغة دولة الرعاية الحاضنة للجميع، فرضت على الشيعة البقاء على الهامش، ولم تترك امامهم سوى خيار التمرد ومواصلة النهضة اعتماداً على الذات وبدون مدد خارجي من اي نوع.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* أستاذ الفلسفة وحوار الحضارات
في الجامعة اللبنانية