علي الشامي *
وقد بحّ صوت الإمام موسى الصدر وهو يناشد الدولة فتح ابوابها للشيعة خاصة، وللمحرومين من المناطق كلها عامة، وبما انه لم يكتف بالمناشدة فقط بقدر ما توسّل الانتفاضة المستمرة والحوار الدائب بغية كسر ابواب الدولة المقفلة، وفي نهاية الامر، تألفت حركة سياسية تمثل النهضة الشيعية الشاملة وخطابها ينادي بدولة حقيقية وعادلة، كانت النتيجة ان اصبحت الحركة عصبية الطائفة في «الغابة» وقادها «نبيه بري» في سعيه لفرض الشراكة في «المزرعة»، دون أن تكون الغابة أو المرزعة في صميم النهضة وخطابها. ان الدولة التي اقفلت ابوابها امام نهضة اهلية كانت تطالب بإنصاف الشيعي مواطناً، عادت وفتحت ابوابها، على مضض، امام الطائفة. وهذا، على الاقل، ما استقرّت عليه المنازعات الاهلية التي انتجت اتفاقية الطائف. فقد ظل الشيعة عامة، وأهل الجنوب والاطراف خاصة، وعلى مدار ثمانية عقود من الزمان، يناشدون الدولة الاصغاء لمطالبهم وتفهّم هواجسهم وفتح ابوابها لهم، وقد تآلفوا مع الحرمان وصبروا على التهميش والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، بدون يأس من الدولة بل رهان دائم على عودتها إلى الصواب؟ ثم يأتي، في آخر الزمان، من يدعوهم الى دخول جنتها. وبالفعل فقد صدق القائل: عش رجباً تر عجباً.
- الهوية المائعة:
وفي اقنومها الثاني، قامت الدولة بمعزل عن الوطن. فقد كانت دولة طائفية تدير مجتمعاً طوائفياً اكثر مما هي مؤسسة للاندماج والوحدة الوطنية. وقد حافظت بأمانة منقطعة النظير على مقولة صائبة: نفيان لا يصنعان أمّة. فكانت لكل طائفة هويتها ولبنانها، اي باختصار، كانت الدولة تقوم على هويات وطوائف حطت كل واحدة منها رحالها في عاصمة ما او سفارة ما، بينما الوطن الحقيقي، حيث تقيم وحدة الشعب والارض واللغة المصير المشترك، كان يبحث عن دولة تحميه. لقد اختزل اقنوم الدولة الثاني، بهويتها المائعة او هوياتها المتعددة، الوطن في مجرد نشيد وعلم، اما شروط الوطن الاخرى من سيادة وحرية واستقلال وهوية وطنية جامعة، فحدّث ولا حرج... ومع ذلك، وبدون الالتفات الى تعدّد الهويات وتطلعات الطوائف، انفردت الطائفة المهيمنة على الدولة في اعتمادها على مقولة «قوة لبنان في ضعفه» وفي ارتهانه لصداقاته الدولية وحياديته عن شؤون وشجون العرب والمنطقة. فكانت النتيجة انفجاراً دورياً للهويات في بعديها الداخلي ــ الطائفي والخارجي ــ الاقليمي والدولي. وهذا ما يفسر كثرة التحالفات والمحاور والرهانات على الخارج التي انغمس فيها اللبنانيون منذ المتصرفية ولبنان الانتداب وصولاً الى دولة الاستقلال. وبالتالي، لم تصنع الهوية المائعة وطناً حقيقياً بقدر ما صنعت وطناً متروكاً للقدر، مثلما أن هذه الهوية لا تؤسس دولة ناجزة وقادرة بقدر ما تنتج دولة معلّقة حتى إشعار آخر.
- السيادة المنقوصة:
وصلت دولة الهيمنة الطائفية والهوية المائعة الى ذروة الفضيحة في ادارة ظهرها لسيادتها المنقوصة في الجنوب، منذ ما قبل قيام دولة اسرائيل الى ما بعد قيامها. وعبارة «ادارة الظهر» كثيرة التهذيب لأنها في مراحل معيّنة كانت تشبه نفض اليد نهائياً من المسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاه الجنوب وأهله. وقد ورثت حركة امل ومن بعدها حزب الله، وهما الآن معاً في ثنائية مصيرية ووطنية، تبعات القبول الرسمي بالسيادة المنقوصة، وما يترتب عليها من وضع الجنوب في فم التنين بدون رفّة جفن او الشعور بالحاجة الى البحث عن وسائل تحمي الوطن انطلاقاً من جنوبه. وكأنما لبنان السيد والحر والمستقل هو كذلك بالرغم من التمدد الاسرائيلي المتواصل في طوال وعرض وعمق منطقة بكاملها لم تبخل يوماً في دفع ضريبة الانتماء للدولة الواحدة والوطن الواحد. وقبل الثنائية الشيعية الراهنة، كان الإمام موسى الصدر قد استشرف خطر التسليم بالسيادة المنقوصة، وعدّها تمهيداً لانقضاض اسرائيلي شمولي على لبنان، الارض والشعب والمؤسسات والدور والانموذج، حيث سوف تظهر عارية ليس فقط مقولة قوة لبنان في ضعفه، بل ايضاً مقولة قدرة لبنان على الاستمرار رغم النزيف الجنوبي. وعندما صاغ عبارته الثاقبة: كيف يبتسم لبنان وجنوبه يتألّم، تعاملت معها دولة الهيمنة الطائفية كبيت من الشعر يتلوه إمام حالم بقدرة لبنان على مواجهة اسرائيل. وفي حين نتفض اهل الجنوب بقيادة إمامهم، مطالبين بسياسة دفاعية وتقوية الجيش وتنمية ترفد الصمود وبناء الملاجئ والبحث عن وسائل اقامة مجتمع مقاوم في الجنوب دفاعاً عن الوطن الممتد من رأس الناقورة الى النهر الكبير، اكتفت الدولة ذاتها بمنحه «مجلساً» ينوب عن مؤسساتها كلها، حيث قررت، بهذا الاجراء، غسل يديها نهائياً من المسألة الوطنية برمّتها.
ولم تكن هذه المرة الاولى التي اهملت فيها الدولة سيادتها المنقوصة، ففي اقل من ثلاث سنوات بعد اعلان دولة لبنان الكبير، تخلت الدولة عن حقها في سبع عشرة قرية وُضعت داخل منطقة الانتداب الانكليزي في فلسطين، وفق تعديلات اتفاقية بوليه ــ نيوكمب سنة 1923، التي وافقت عليها الدولة حينها. وعشية اعلان قيام دولة اسرائيل، تقدم جيشها وقضم سبع قرى اخرى، وارتكب مجزرة في حولا عام 1948، وأحكم سيطرته على آلاف الدونمات الزراعية الخصبة وطرد اصحابها الشرعيين. ووافقت الحكومة على هدنة شرّعت قضم الارض وطرد السكان الذين بخلت عليهم حتى بالجنسية اللبنانية واستبدلتها بأخرى «قيد الدرس»؟ ومنذ عام 1967 وصولاً الى عام 1989، كانت اسرائيل تقضم مزارع شبعا الواحدة تلو الاخرى ولا من رأى او اعترض، وعلى امتداد نصف قرن بالكامل، وكانت اسرائيل تقصف وتحرق وتقتل وتتمدد بعدوانها، الى عمق لبنان ومن ثم تجتاح وتحتل وترتكب المجازر اللامتناهية، وحكومة لبنان تدير ظهرها وترتّل انشودة قوة لبنان في ضعفه، وأن احداث الجنوب عديمة الاثر والتأثير في الازدهار اللبناني وانموذج العيش المشترك. وبعدما عمّ الخراب البصرة، اخرجت من الادراج مقولة حروب الآخرين والساحة، وأن لبنان الرسمي، حتى الذين وصلوا الى الحكم في دبابة اسرائيلية، كان ضحية صراع فلسطيني ــ اسرائيلي في مرحلة، وشيعي ــ اسرائيلي في مرحلة اخرى، تزينها مقولة جديدة عن مقاومة تخدم مطامع سوريا او ايران، وربما فنزويللا بعد حين...وعندما قرر الجنوبيون اخذ المبادرة، مدعومين بتياراتهم الوطنية كلها، وشرعوا في مقاومة ذاتية ضد الاحتلال وتداعياته على مجمل الوطن، تركتهم الدولة يتدبرون امرهم، وقد أمل بعض أهل الدولة ان يعودوا الى صوابهم ويتفقهوا في علوم موازين القوى. وإذ تجري الرياح بما لا تشتهي سفن اسرائيل ومن معها في الداخل والخارج، تنهال على المقاومة كل النعوت الممقوتة: دولة داخل الدولة، مؤسسة استثمار سورية ــ ايرانية، مشروع انقضاض على السلم الاهلي والعيش المشترك وما يتوارى خلفه من «فحيح» ينذر بغلبة شيعية لا تبقي ولا تذر...
لم يتغير خطاب الدولة التي ورثت حقبة الوصاية السورية. وفي حين أن زمن الوصاية هذه قد ادخل تعديلات على الخطاب حمت ظهر المقاومة والوطن، انطلاقاً من بعض بنود اتفاقية الطائف ومن متغيرات في موازين القوى والمشاريع الاقليمية والدولية، فإن خطاب ما بعد الوصاية السورية سرعان ما عمّق الاقانيم الثلاثة المذكورة في عبارات ممجوجة عن السيادة والحرية والاستقلال، ولم نلحظ لها وجوداً ملموساً وعلى المستويات كلها. ففي زمن قياسي، لا يزيد على السنتين، تفاقم الاصطفاف الطائفي ووصل الى الاصطفاف المذهبي. وما لا يخرج الى العلن من كواليس التعبئة في الجلسات الخاصة، يبوح به بعض خطباء المساجد في دعوات التكفير والتمهيد للانفجار المذهبي. وعلى منواله، نسجت الاكثرية النيابية خيوط الغلبة، وباعتبارها وريثة الوصاية السورية، نزعت إلى الاستيلاء على كل شيء. فاذا كانت دولة ما قبل الحقبة السورية قد قامت على الهيمنة، فإن وريثة هذه الحقبة سعت الى استبدال الهيمنة بالغلبة. وبالرغم من فشلها في الاستحواذ على رئاسة المجلس النيابي، وبالتالي فشلها في السيطرة على الرئاسة الاولى، فإن نهمها الى الغلبة لم يرتدع. فكانت استراتيجية «افتراس» الدولة والقضاء على مشروعية الشراكة في مؤسساتها، حيث كان الرجوع الى مصدر التوتر الاهلي التاريخي: «ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم».
وهكذا، عاد الاقنوم الاول ليصبح سيد الموقف، في التعيينات الادارية والحقائب الوزارية ومجلس القضاء والمجلس الدستوري والسلك الديبلوماسي والترقيات والمناقلات والصلاحيات وتقوية قوى الامن الداخلي على حساب الجيش... وعلى غرار ذلك، عادت الحياة الى الاقنوم الثاني. فضاعت هوية الطائف العروبية وسط الانخراط المتجدد في صراع المحاور الخارجية، وتحت شعار التخلص من المحور السوري ورموزه، صاغت الاكثرية النيابية «شرعية الالتحاق بالمحور الفرنسي ــ الاميركي، وأعادت الروح الى الهوية المائعة والمتعددة.
ولم يكن الاقنوم الثالث بعيداً عن هذه التطورات. فالسيادة المنقوصة تاريخياً في الجنوب، اضحت منقوصة فقط بوجود سلاح المقاومة؟ وبدل البحث عن وسائط بديلة لسد ثغر السيادة المنقوصة في الجنوب، ادارت الاكثرية النيابية الظهر، مرة اخرى، للخطر الاسرائيلي الجاثم على صدر الوطن انطلاقاً من جنوبه، وأفلتت هواجسها «الذاتية» من كل عقال. وعلى امتداد مرحلة ما بعد الوصاية السورية، والشغل الشاغل لحكومة الاكثرية وبعض اقطابها تجلى في حاجتها الى تجريد «الشيعة» من سلاحهم شرطاً لقبولهم في دولة الانتفاضة الاستقلالية. بل إن تمثيلهم النيابي والوزاري إنما كان في هذا السياق: مدّ جزرة الحصص على حساب السيادة والحرية والاستقلال. وهكذا، لم تعمل حكومة الاكثرية شيئاً من اجل تحرير الاسرى والمزارع وردع الخروق الاسرائيلية المتكررة، ولم تبتكر سياسة دفاعية في الجنوب مدعومة بشراكة حقيقية في ادارة الملفات السياسية ذات الصلة. وما زاد في تفاقم الامور، أن الاكثرية الحاكمة سلّمت امورها ودولتها ومصير وطنها الى سفارة الدولة الاكثر انحيازاً لإسرائيل، وحصرت انتقاص السيادة في بقايا النفوذ السوري وفي ترسيم الحدود والعلاقات الديبلوماسية. اما مصادر الانتقاص الاخرى للسيادة المرجوة، فكانت مزيداً من دفن الرأس في الرمال على رجاء التفاتة من «الحليف الدولي»، الذي لم يخف يوماً رغبته في ابقاء لبنان، بل والمنطقة كلها، في فم التنين الاسرائيلي، الى درجة اقنعت حكومة السيادة المنقوصة بلا جدوى المتابعة الدولية الخاصة بالشبكة الاسرائيلية المجهولة المصير والتحقيق حتى الآن.
اما وقد دهم العدوان الاسرائيلي الاخير دافني رؤسهم في الرمال، ودهمتهم تضحيات المجتمع الأهلي الحاضن للسيادة والمقاومة، مقاومة الوطن لا الحزب او الطائفة، فإن خطاب بعض اقطاب الاكثرية ووسائل إعلامها وأقلام كتّابها، لم تتوقف عن ترميم الاقانيم المشؤومة للدولة، ولم تلحظ كيف ادارت الثنائية الشيعية، برأسيها، مجريات الحرب وتداعياتها بمسؤولية رجال دولة حقيقية، مسؤولية الحفاظ على دولة ــ وطن ومجتمع العيش المشترك والسلم الاهلي والسيادة غير المنقوصة والاستقلال الحقيقي...
(حلقة ثانية وأخيرة)
* أستاذ الفلسفة وحوار الحضارات في الجامعة اللبنانية