نجيب نصر الله
الوعي الموضوعي للعالم ولمتغيراته، غير الوعي الذاتي له، وفيما الغلبة كانت وتستمر معقودة اللواء للوعي الأول، فإن للثاني حضوره الذي يشتمل أيضاً على الزعم والوهم. الارتباط الحكمي بين نوعي الوعي، يستدعي تعقيداً ربما لا يناسب الأطروحات السياسية أو الثقافية التي تأخذ بالسهولة أو بالتبسيط منهجاً وحيداً للعمل، حيث إن هذا المنهج يتيح لمتبنّيه اعتبار القول المغاير سفاهة تستحق المحاكمة.
المطابقة بين الشعارات والواقع أصعب وأعقد مما يخطر في البال. ليس كل ما نُفكر به صحيحاً، كما أنه ليس صحيحاً كل ما لا نفكر به. غير أن همّ المطابقة لا وجود له في برنامج الحزب السياسي الحاكم الذي يستند، وله الحق، إلى تراث بالغ الغنى في مضمار احتقار الوعي، أو الحط من شأنه. لطالما كان مطلب الشيء سبيلاً إلى تحقيق عكسه. ليس مطلب «الدولة»، الذي تردده الألسنة «الذكية»، إلا ستاراً لمشروع سياسي انقلابي شامل، هدفه النهائي النيل من موقع البلد ودوره كجزء من محيط يعيش صراعاً موضوعياً مفتوحاً مع دولة اسرائيل. محاولات التلزيم السياسي والأمني والثقافي للبلد، والجارية اليوم تحت عنوان تنفيذ القرار 1701، إشارات معبّرة عن طبيعة هذا الانقلاب، والذي كان له أن ينجح لو لم يتم إحباطه في واحدة من حلقاته الأساسية التي مثّلها العدوان الأخير.
هل انغلقت المنافذ على قوى 14 آذار؟ الأرجح نعم، فالاحتمال الأخير الذي انتظرته وراهنت عليه يكاد يتبدد. بيان «البريستول» الأخير تعبير بالغ الوضوح عن طبيعة المأزق الذي يحكم توجهات هذا الفريق، وهو من النوع الذي يدفع به الى المزيد من فقد الصلة بالمعطيات والوقائع، لمصلحة زيادة الجموح. فلدى مذيعي البيان «الجاهز» أن كل مرور للوقت يفاقم من الخسارة.
هل كتب على البلد أن يستمر في المحنة؟ وقائع الساعات الأخيرة تشير إلى طبيعة الجولة الجديدة التي تهيّأت عناوينها في البيان الذي حاول القول إن المبادرة التي أضاعتها وقائع الجولة السابقة لا تزال ممكنة. احتدام الأسئلة هو احتدام للمعركة التي بدأت نذرها بالاقتراب، وخصوصاً أن انهزام العدوان قد بدد أحلام كسر ميزان القوى الداخلي.
عليه يمكن القول بخلو الأفق اللبناني القريب والبعيد من أي إشارة إلى احتمال التوصل الى هدنة تسمح للبلد بإعادة التقاط الأنفاس، أو أي من صيغ التهدئة. وخلافاً لما يقال أو يسرب، فإن المواجهة التي جعلها العدوان الاسرائيلي تدخل طوراً جديداً متقدماً، مفتوحة على مزيد من التأزيم.
التأزيم هو الوجه المرادف للعجز، بل هو أحد أسلحته. لا يستقيم خطاب «الأكثرية» إلا باللجؤ الى التأزيم، إنه شرط الحياة الذي من دونه تسقط الحجج والدعاوي، التي ما انفكت تتحكم بالمشهد السياسي برمته.
القول إن البلد مفتوح على مخاطر جديدة قد تطال هذه المرة الضوابط التي طالما حكمت إيقاعه صحيح جداً. محاولات الاستثمار السريع للحادثة الأمنية الأخيرة وضعت للصورة إطارها الحقيقي. وبيّنت أن التأزيم، كما الاستئثار، هما الشكلان الوحيدان لدوام هذه الأكثرية. تفاقم العجز الأكثري عن بلوغ أي من أهدافه، هو الانعكاس الشرطي لطبيعة هذا الاجتماع الذي قام ويقوم على الانقلاب بوصفه ثقافة سياسية.
ليس بيان البريستول الأخير ببيان عادي، إنه يلامس عتبة البلاغ العسكري، وقد كشف النقاب عن بعض مفاصل الاستراتيجيا الجديدة المنوي اعتمادها، وهي استراتيجيا محكومة بالتصعيد والتأزيم.
بالنسبة إلى «الحزب الحاكم»، فإن تعثر المحاولة الاسرائيلية الاميركية لاستئصال «حزب الله» دفع بالأمور بعيداً، وما كان يمكن تأجيله من أهداف تأزيمية لم يعد ممكناً، الانكشاف السياسي الحاد الذي أصاب قوى الفريق الحاكم، هو ما يدفع به الى مزيد من الهجومية، وهي حالة طبيعية ومتوقعة، كونها تعكس حالة الانكسار شبه الكامل الذي أصاب المشروع.