ليلى نقولا الرحباني *
« على الولايات المتحدة أن تنشر نفوذها في أنحاء الارض كلها... الأمر محكوم بالمصلحة القومية وحدها، ولا يبدو أن له حدوداً».
على الولايات المتحدة الإرتقاء الى مصاف القوى العظمى...عليها أن تضمن لبلدان القارة الأميركية وسواها : التطور.. وعدم التدخل..ولأداء مهمة كهذه، ينبغي للبلد أن يكون جاهزاً للحرب.. فالولايات المتحدة «ممثلة المسيح»...»ملك العدالة»، لا يمكنها الإغضاء عن إنشاء قوة ذاتية فعّالة يمكنها استعمالها أينما تدخلت».
القائد الاميركي البحري أ.ت . ماهان (القرن 19 )
أضحت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية محط اهتمام منقطع النظير منذ 11 أيلول2001 ، وقد اعتبر بعض المحللين أن العلاقات الدولية برّمتها قد دخلت مرحلة جديدة تختلف جذرياً عن كل المراحل التي سبقتها، منطلقين من مقولة أن الاستراتيجية الأميركية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية قد تحولت تحولاً جوهرياً بعد هذا التاريخ. الحقيقة لا يمكن إنكار أن هذا اليوم المشؤوم هو حدث عالمي بامتياز، ليس لأن تداعياته طاولت دولاً ومجتمعات كثيرة فحسب ، بل لأنها طغت على النظام الدولي برمته. لكن، إلى أي مدى ساهم هذا الحدث بتغيير أساسي وجوهري في الاستراتيجية الأميركية، وهل صحيح ما قاله البعض: « أن العالم بعد 11 أيلول هو غيره قبل ذلك التاريخ «؟.
لا يمكن معرفة هذا الأمر إلا بعد تحليل العناصر الأساسية التي تنطلق منها السياسة الخارجية الأميركية ، لنرى مقدار التحول الحاصل في هذه السياسة قبل وبعد 11 أيلول. أما منطلقات هذه السياسة فهي: الدين، الأمن ، الايديولوجيا والمصلحة القومية.
أولاً: الدين
بحسب تعبير برتران بادي، إن أحد أهم الاستدعاءات التي تمت عقب حوادث 11 أيلول هو « عودة المقدس» الى مسرح العلاقات الدولية ، وقد تجلى ذلك في خطاب سياسي أميركي يحمل مفردات ذات طابع ديني مقابل خطاب أصولي تكفيري إسلامي، بالإضافة الى مشاركة قوى اليمين الديني المحافظ في الإدارة الأميركية للمرة الأولى . بيد أن هذا التأثير الديني لم يكن غائباً قط عن المجتمع والسياسة الخارجية الأميركيان، فالإثنان يستمدان قوتهما من العلاقة العضوية القائمة بين الدين والسياسة. وعلى الرغم من التأكيد على حرية المعتقد والتفكير، وضرورة الفصل بين الدين والسياسة ، إلا أن المعطيات تؤكد أن هذا الفصل لم يكن تاماً بتاتاً في أي مرحلة من المراحل ، وأن العلاقة بين الكنيسة والسلطة هي علاقة ود وليست علاقة خصام ، هذا في ما يختص بالمستوى السياسي . أما بالنسبة للمستوى الديني، فإن القيّم المسيطرة هي الرؤى التلمودية التي تُخضع السياسة للدين، والتي ينادي بها جماعات دينية متطرفة يُطلق عليها اسم « اليمين الديني المحافظ». خرج اليمين الديني كحركة سياسية من عباءة الأصولية البروتستانية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، وهما يتشاركان معاً نفس النظرة الى العالم والمجتمع والإنسان. وبدأ صعود هذه المجموعات اللافت أثناء حملة ريغان الانتخابية تحت شعار «الولادة مرة أخرى كمسيحيين».
وتفيد المعلومات أن الرئيس ريغان كان متأثراً جداً بالعهد القديم وخاصةً نبوءة «معركة هرمجدون»، معتبراً أن اسرائيل هي الديمقراطية الثابتة الوحيدة التي يمكن الإعتماد عليها كموقع لحدوث هرمجدون .( تصريح له في مقابلة تلفزيونية مع جيم بيكر)
واستمر صعود اليمين الديني المتطرف بشكل متسارع ،إذ تشير إحدى الدراسات أن التصويت الرئاسي عامي 1988 و1992 تأثر الى حد كبير بالرؤى والتوجهات التي أطلقتها هذه المجموعات الراديكالية، الى أن أتى الرئيس جورج دبليو بوش الى السلطة على أرضيّة اليمين الديني وتصويته المرجح.
وها هو الاسلام الأصولي يضرب العمق الأميركي في 11 أيلول، فيبرز التطرف الديني والسياسي على أوجّه، وتبرز المقولات المستعارة من التوراة من عيّنة:
« إن أمتنا شهدت للشر.... حملتنا الصليبية سوف تأخذ وقتاً.. محور الشر- والحرب العادلة».من هنا نرى أن الخطاب الديني المتطرف الذي استعمله بوش الإبن كرد على هجمات القاعدة الأصولية ، ما هو إلا نسخة جديدة عن خطابات سابقة ظهرت في مراحل عدة من تاريخ الولايات المتحدة وأبرزها في الثمانينات مع رونالد ريغن وغيره من المحافظين.
ثانياً: الأمن
لقد شكّل الأمن بشقيه العسكري والسياسي ، محور إهتمام الأميركيين منذ تشكل الجمهورية، وأحد أهم المنطلقات المركزية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية وما يزال. وقد أتت ضربة 11 أيلول لتزعزع ثقة المواطن الأميركي بأمنه، ولتشكل أخطر هزّة يمكن أن تتلقاها الذهنية الأميركية الرسمية والشعبية في هذا المجال بحيث بات تحقيقه اليوم يتخطى حدود الولايات المتحدة ليشمل العالم بأسره. لقد ضرب هذا الحدث ثقافة الشعب الأميركي السياسية في العمق وهدد أحد أهم إنجازات الجمهورية ، كما أفقد الجيوبوليتيك - الذي يتفاخر به الأميركيون- أهميته الاستراتيجية.
بدأ مؤسسي الجمهورية الأوائل صيانة الأمن القومي وتوطيده من خلال إنتهاج سياسة العزلة وإعتماد «مبدأ مونرو»، الذي ما لبث أن تراجع بعد الحرب العالمية الثانية لتحل محله سياسة من نوع جديد فرضتها ظروف الحرب الباردة، وما جعل العقيدة الأمنية الأميركية تتحول من عقيدة «لا تدخلية» الى عقيدة» تدخلية بامتياز».
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
*باحثة لبنانية في القضايا الإستراتيجية
إن التغيير الذي طرأ على الساحة السياسية والاستراتيجية الدولية، بعد بروز الاتحاد السوفياتي كقطب ثان، أدت الى اعتماد سياسة « الاحتواء» وتأمين «التفوق الاستراتيجي الشامل» الذي تكرس فعلياً في أعقاب نهاية الحرب الباردة. فإنهيار « امبراطورية الشر» (كما اسماها رونالد ريغان) أعطى الحق للولايات المتحدة في اللجوء الى القوة لحل النزاعات وفرض سيطرتها على الدول الأخرى، لكنه بالتزامن مع ذلك ، ألغى مبررات حال الطوارئ القومية السائدة بسبب غياب العدو. وكما كتب باحثان أميركيان « كان يمكن الاعتقاد بأن المحافظين الجدد ، سيفرحون بموت عدوهم . لكن ذلك لم يحصل ، بل راحوا يبحثون عن « شيطان جديد» قادر على توحيد الشعب... عدو يذكّر الأميركيين بأن ثقافتهم وأمنهم معرضّان للخطر».
فمَن أفضل من «الإرهاب الأصولي « و «الدول المارقة» لتحويل الأنظار إليهم ، خاصة بعد أحداث 11 أيلول، التي رجّحت كفة اليمين المحافظ في التوازنات المؤسساتية، وأتاحت المجال للعسكرة والحروب «الوقائية» في السياسة الخارجية؟ .
ثالثاً:الايديولوجيا و»المصلحة القومية»
إذا كان الفصل بين السياسة والدين ،أي بين الحرية السياسية والحرية الدينية هو فصل اصطناعي ، فإن الفصل بين الداخل والخارج هو فصل حاد في السياسة الخارجية الأميركية ، فالنظام والأمن والحرية والديمقراطية والعدالة للداخل الأميركي، والهيمنة والتسلط والفوضى سمة علاقاتهم الدولية .
ان الإيديولوجيا السائدة في أوساط الانتلجنسيا الاميركية القائمة على الليبرالية، بشقيها الاقتصادي والسياسي، وعلى تفوق القيّم الاميركية ، ليست جديدة . فالخلفية الفكرية للمصلحة القومية للولايات المتحدة الاميركية استندت منذ القدم الى عناصر التجارة والانفتاح والديمقراطية والثروة، وهي حاضرة دائماً في وجدان الاميركيين انطلاقاً من نظرة الى الذات ترى « أميركا أمّة ممّيزة بالرسالة التي رآها الله جديرة بها ، مما يجعلها فريدة في التاريخ»، ومقولة «إن سيطرة أميركا على العالم هي لخيره قبل خيرها».
والجدير بالذكر أن الأميركيين ينطلقون من فكرة أن الخصم هو كل من ليس معهم ، وليس بالضرورة كل من ليس مع الغرب. وكل من لا يتبنى قيّمهم أو طريقة عيشهم يُشار اليه بالبنان حتى ولو كان أوروبياً. وما تهديد جورج بوش الشهير :»إما معنا أو مع الارهاب « سوى دليل ساطع على قيّم أميركية ما زالت مستمرة منذ تأسيس الجمهورية.
بالمقابل، يُلاحظ أن المد الإمبريالي للاقتصاد الأميركي أسس لنزعة اقتصادية اجتماعية تستحكم بالوجدان الأميركي الى حد كبير، حيث لم يقم الأميركيون بالتجديد للرئيس جورج بوش الأب بالرغم من إنتصاره في حرب الخليج الثانية،وذلك بسبب التراجع الكبير الذي شهده الاقتصاد الأميركي في تلك الحقبة.
واستطراداً ، لا يمكننا النظر الى حروب ما بعد 11 أيلول بمعزل عن الإيديولوجيا الأميركية ودوافعها الاقتصادية. إذ إن ما يقوم به الأميركيون اليوم في الشرق الأوسط ليس صراعاً من أجل تعزيز قيم الديمقراطية والعلمانية وحقوق الانسان كما يدّعون ، فالولايات المتحدة غير مكترثة بدمقرطة أي بلد ما لم توظف هذه الدمقرطة لخدمة مصالحها.
إن قيم الحرية والديمقراطية ليست سوى شعارات أدواتية تخضع للمنطق البراغماتي المصلحي ، ودافعاً الى المزيد من التوسع والسيطرة. وما الانتخابات البرلمانية اللبنانية 2005، التي قامت على أساس قانون سوري مزوّر للإرادة الشعبية، وتم وصفها من قبل الاميركيين بالنزاهة والديمقراطية، سوى أبلغ دليل على ذلك.
في النهاية ،إن المتابعة الدقيقة والمتأنية لجوهر السياسة الخارجية الاميركية، ولطبيعة الدور الاميركي على مر العهود الرئاسية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية، تفيدنا بأن هناك نظرية أساسية تحكم هذه السياسة ،هي :» إن قيم أميركا ومؤسساتها وآلياتها ، لا بد وأن تمتد الى العالم كله». قد تختلف الأساليب الآيلة لتحقيقها، بإختلاف الأنظمة العالمية والتطورات الدولية، لكن مما لا شك فيه أن الاستراتيجية الأميركية أي سياسة «التوسع الامبراطوري» ما زالت كما هي منذ ما قبل 11 أيلول .
نلاحظ أنه بعد 11 أيلول، ومن خلال تحويل الحرب من مكافحة للشبكات الإرهابية عبر الوطنية الى مواجهة مع دول «محور الشر»، تتابع إدارة بوش مشروعاً سياسياً واستراتيجياً تم تحديده في السبعينات ، وأُعيدت بلورته في التسعينات من أجل أن يتوافق مع حقبة ما بعد الحرب الباردة. فعقيدة «الحرب الوقائية» التي أعلن عن تبنيها في أيلول 2002، والتي شكلت سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، تندرج في سياق مثابرة اليمين الراديكالي والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة لبسط سيطرتهم على العالم عن طريق الحرب»الوقائية» وهو ما كان متعذراً قبل هذا التاريخ.
بلا شك، إن صباح الطائرات في 11 أيلول شكل منعطفاً كبيراً في تكتيك الولايات المتحدة الأميركية وليس في استراتيجيتها بأي شكل من الأشكال.