خالد صاغيّة
ينعقد غداً وبعد غد في سنغافورة الاجتماع السنوي بين مجلس حاكمي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وَضْع المنظّمتين بخير. لكنّ وضع الأهداف العلنية التي أنشئت المنظّمتان من أجل تحقيقها، ليس بالخير نفسه. فأيّ عاقل ما عاد «يقبض» المزاح السمج حول القضاء على الفقر. وتحوّلت مسألة الديون من حلّ للمشكلات التنموية إلى عائق أمام أي نوع من أنواع التنمية. يعلم الجميع أنّ اجتماعات سنغافورة لن تغيّر هذا الوضع. لكنّها، رغم ذلك، شكّلت مناسبة لفتح النقاش حول سير العمل في هاتين المنظّمتين اللتين تشكّلان، إلى جانب منظّمة التجارة العالمية، أعمدة الهيكل لما عُرِف باسم «العولمة».
ويبدو أنّ الحكومة البريطانية قرّرت فتح النقاش حول المساعدات المشروطة التي تقدّم إلى الدول النامية. فهدّدت بسحب خمسين مليون جنيه استرليني من مساهماتها في البنك الدولي، احتجاجاً على الاستمرار في ربط مساعدات البنك بشروط قاسية. فالمنظّمة التي تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية، تأسّست للقضاء على الفقر في العالم. واستغلّت هذا الشعار في مرحلة لاحقة لفرض سياساتها الهادفة إلى تحرير الأسواق في الدول النامية، وفرض خصخصة القطاعات الحيوية. لا داعي للحديث عن النتائج الكارثية لهذه السياسات، وخصوصاً أنّ شعار القضاء على الفقر لم يعد مقنعاً للدفع بها إلى الأمام. برزت الحاجة إلى مسوّغات إيديولوجية جديدة، فبدأت الألسن تلوك عبارة «الحكم الصالح»، وغابت التنمية لتحلّ محلّها «الشفافية» و«مكافحة الفساد».
ليس سراً أنّ قائد الحملة الإيديولوجية الجديدة ليس إلا السيّد بول وولفوتز، الرئيس الحالي للبنك الدولي. فنِعم الإدارة الأميركية لا تتوقّف على الجانبين السياسي والعسكري. أُوفِدَ جون بولتون إلى الأمم المتّحدة من أجل إصلاحها، وها هو بول وولفوتز يقوم بالمهمّة نفسها في البنك الدولي.
قد تكون مجرّد فكرة الانتقال من العمل في وزارة الدفاع إلى البنك الدولي مستغربة. فللوهلة الأولى، لا يبدو الرابط المنطقي متيناً بين شنّ الحروب والقضاء على الفقر. لكنّ وولفوتز قادر على إقامة الربط هذا. فهو ممّن كانوا أشدّ المتحمّسين للحرب على العراق (وصاحب نظرية أنّ بمقدور هذه الحرب أن تموّل نفسها عبر مبيعات النفط العراقي)، وسوّغ حماسته هذه برغبته في نشر الحرية في العالم. الحرية نفسها ينشدها وولفوتز اليوم حين يصرّ على ربط مساعدات البنك الدولي بـ«الحكم الصالح».
ليس وولفوتز أوّل أميركي ينتقل من وزارة الدفاع إلى البنك الدولي. سبقه إلى ذلك روبرت مكنامارا الذي ترأس البنك من العام 1968 إلى العام 1981. الغريب حقاً أنّ مكنامارا جاء إلى البنك بعد الفشل الذريع للإدارة الأميركية في فيتنام. ووولفوتز جاء بعد فشل مشابه في العراق. لا تنتهي أوجه الشبه هنا. فمكنامارا متّهم حتّى اليوم بأنّه هو من افتتح «أزمة الديون» في العالم. هو المسؤول عن توريط دول بأكملها بتراكم الديون، والغرق في مستنقع دفع الفوائد. وولفوتز متّهم بمنع تلك الدول من الخروج من الأزمة، ودفع آخرين إليها. مكنامارا متّهم بتشجيع الديكتاتوريات في العالم الثالث، بسبب موافقته على مدّهم بالمال للقيام بمشاريع تنموية. كانت الحجّة آنذاك أنّ التنمية الاقتصادية لا بدّ أن تنعكس على السلطة السياسية. وولفوتز اليوم يحارب الديكتاتوريات بطريقة مختلفة. يمنع عن شعوبهم المساعدات، ما لم يلتزموا بشروط... تحرير الأسواق. فالتحرير يقود إلى مزيد من الشفافية وإلى القضاء على آفة الفساد.
ما زالت الحجّة السياسية نفسها، وكذلك المحصلة الاقتصادية. مزيد من إعادة الهيكلة في الدول النامية خدمة لاقتصاديات الدول الكبرى، صاحبة القرار في المنظمتين الماليتين الدوليتين. أمّا من أعطى هذه الدول حقّ القرار، طالما أنّ الدول النامية هي المعنية مباشرة بتلك القرارات، فهذه حكاية أخرى.