جوزف عبد الله *
نحار، نحن غالبية المسيحيين (وبالتحديد جميع المسيحيين غير المؤيدين لحزب «القوات اللبنانية» والمتحالفين معه، وهم بالطبع أقلية المسيحيين اليوم)، كيف ننظر إلى النداء السابع الذي وجهه «مجلس المطارنة الموارنة». وفي الحيرة نتساءل: ما الذي دهى أصحاب السيادة في «مجلس المطارنة الموارنة» ليذهبوا هذا المذهب في ندائهم السابع؟ وفي سؤالنا هذا ننطلق من ذلك الجهد الكبير الذي بذله البابا يوحنا بولس الثاني منذ دعا في حزيران 1991 إلى عقد مجمع خاص من أجل لبنان.
في ضوء أعمال ذلك السينودوس، وما أسفر عنه، بعد بضع سنوات، من وثيقة عُرفت باسم «الإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان» (نشر في أيار 1997)، نسأل سادتنا المطارنة الموارنة لماذا هذا النداء؟ وهل هذا هو «الرجاء» المرجو منهم وفي أعناقهم «الإرشاد الرسولي» أمانة كما يُفترض؟
بداية نكرر ما قاله البابا يوحنا بولس الثاني للبنانيين عامة، ولأساقفته خاصة، وللمطارنة الموارنة بشكل أخص: ليس «الإرشاد الرسولي» مجرد وثيقة، بل هو بالأحرى أداة عمل: «تعطي مبادئ للتفكير، وتوجيهات للتجدد، واقتراحات عملية... عليكم أن تبحثوا عن سبل تطبيق ما عبّرت عنه» (الإرشاد الرسولي، ص 10-11).
قضيتان أساسيتان: السلطة الكنسية والانتماء إلى العروبة
حدد «الإرشاد الرسولي» قضيتين أساسيتين لا بد للسلطة الكنسية من تفهمهما ومعالجتهما.
الأولى: الهوة بين السلطة الكنسية والمسيحيين
قضية علاقات المسيحيين بعضهم مع بعض مسألة مركزية، وفي انقسامهم خطورة كبيرة: «إن الرجاء، بالنظر إلى مستقبل لبنان، إنما هو مرتبط أيضاً برجاء وحدة المسيحيين» (ص 6). والمسألة الأهم في وحدة المسيحيين هي علاقة السلطة الكنسية بجموع المسيحيين. يقول الإرشاد الرسولي: «إن كنيسة لبنان... جرحت في صميم جسدها... ولكنها امتحنت بنوع خاص امتحاناً ذريعاً في ضميرها. فقد شاهدت بعض أبنائها يُقتلون ويقتلون ويتقاتلون. وهي لا تزال تعاني من نزاعاتهم المتوقدة دائماً، وتؤلمها بطريقة موجعة الهوة العميقة التي حفرتها هذه السنوات المضطربة بين عدد من أتباعها وبين هؤلاء والسلطة الكنسية» (ص 16).
لاحظوا أن كلام البابا يوحنا بولس الثاني يشير إلى الهوة بين «عدد» من أتباع الكنيسة والسلطة الكنسية، ويعتبر ذلك «موجعاً». كلامه هذا يعود إلى سنوات طوال خلت. ولو شاء اليوم إعادة صياغة عبارته لكم كان الألم الذي يشير إليه موجعاً أكثر؟ فالهوة تفصل اليوم غالبية أبناء الكنيسة عن السلطة الكنسية، لا مجرد «عدد من أتباعها». فعلى من «يبطرك» المطارنة الموارنة إذا ضربوا بعرض الحائط رأي غالبية أبناء الرعية؟ ترى إلى متى يصمون آذانهم عن اعتراضات هذه الغالبية المسيحية؟ لقد سبق لهم أن سمعوا عبارات من مثل «أنت البطرك يا سليمان»، وهناك من يرشح بطاركة آخرين. فمما يشكو العماد عون؟ ولماذا إصرار المطارنة الموارنة على استفزاز الجمهور المسيحي وتحديه. فهل «مجلس المطارنة الموارنة» ونداءاته مجرد ترجيع لصدى «القوات اللبنانية»؟ وهل يمكن التعاطي مع غالبية المسيحيين كما تم التعاطي مع قضية جان عزيز وتوفيق الهندي في «قرنة شهوان»؟
ألم يقرأ السادة في «مجلس المطارنة الموارنة» ما جاء في مقررات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وقد ذكّرهم به الإرشاد الرسولي، في كلامه على «مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان» الذي «أعاد تنظيم نفسه وفقاً لتمنيات الجمعية السينودوسية، في سبيل فعالية رعائية أكبر، فعمد إلى إشراك الكهنة والعلمانيين إشراكاً أفعل في العمل المشترك وفي القرارات الكنسية» (الإرشاد، ص 18)؟
فأين رأي العلمانيين في النداء السابع؟ وأين رأي أكثرية أبناء الكنيسة؟ فهل التوصيف الذي جاء في النداء، تحت عنواني «المشاكل الوطنية» و«ما نحن فيه اليوم»، توصيف توافق عليه غالبية المسيحيين (من الرئيس لحود إلى التيار الوطني الحر إلى سليمان فرنجية والعديد من القوى والشخصيات المسيحية)؟ إن هذه الغالبية ترى في طليعة المشاكل الوطنية: العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، هذا العدوان المدعوم مما يسمى «المجتمع الدولي» الخاضع للهيمنة الأميركية الأوروبية، واستقواء بعض القوى السياسية اللبنانية (ومنها بقايا قرنة شهوان، أي الأقلية المسيحية) وبعض أهل الحكم اللبناني بهذه الهجمة العدوانية على لبنان لتحجيم دور الغالبية المسيحية في الحياة العامة اللبنانية وإلغائه.
إن الغالبية المسيحية تصرح دوماً، (ومجلس المطارنة الموارنة يعرف ذلك، ويصم أذنيه) بأنها هي المهمشة والمستبعدة من المشاركة، بينما الأقلية المسيحية تشارك سعيدة في وليمة تهميش غالبية المسيحيين. فلماذا لا يكون كلام المطارنة الموارنة «نعم نعم، لا لا»؟
وهذه الغالبية المسيحية تصف ما تعرض له لبنان من خراب وتدمير توصيفه الصحيح. فهو ليس تلك «العاصفة التي مرت بلبنان». بل هو ذلك العدوان الإسرائيلي الأميركي البريطاني بالتحديد. فلماذا لا يعتمد «مجلس المطارنة الموارنة» تسمية العدوان باسمه الصريح. ألأن فن التعمية في سر التسمية؟
والغالبية المسيحية، انطلاقاً من موقفها السياسي من العدوان، هي التي مارست التضامن الفعلي (الإنساني والوطني، أي المسيحي بالتحديد) بينما الأقلية المسيحية مارست القليل من التضامن بكثير من الرياء، فيما مارست في الإعلام التحريض والكثير الكثير من اللاتضامن، كيلا نستعمل عبارات أخرى قد تكون أكثر صوابية. وأليس من حق هذه الأغلبية أن ترى رأيها وموقفها موضع احترام من «مجلس المطارنة الموارنة»؟
الثانية: الانتماء إلى العروبة
جاء في «الإرشاد الرسولي»: «إن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة». (ص 150). ويضيف: «بودي أن أشدد، بالنسبة إلى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وأدعوهم إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية... موقعاً مميزاً، لكي يقيموا، هم وسائر مسيحيي البلدان العربية، حواراً صادقاً وعميقاً مع المسلمين» (ص 150-151).
نسأل السادة المطارنة الموارنة: ما معنى «المصير الواحد» الذي «يربط» (وعبارة ربط relegere وreligare في أصل عبارة الدين religion) المسيحيين والمسلمين؟ وما معنى «التشديد» «على ضرورة المحافظة على العلاقات التضامنية مع العالم العربي»؟ وما معنى دعوة الإرشاد الرسولي إلى جعل الانضواء إلى الثقافة العربية امتيازاً، «موقعاً مميزاً»؟
ما معنى كل ذلك إن لم يكن المقصود أن يحمل المسيحيون عضوياً، في لبنان وبلدان المنطقة، الهموم والقضايا التي يعانيها المسلمون في لبنان وبلدان المنطقة؟ ولا يخفى عن بال أحد أن في طليعة هذه الهموم تأتي: قضية فلسطين والاستعمار الصهيوني الاستيطاني فيها (وفي صلبها حق العودة للمهجرين الفلسطينيين، هذا الحق الذي حولناه في لبنان إلى بند دستوري في رفض التوطين)، وقضية غزو العراق... وسائر التهديدات التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية. ألا يعني ذلك رفضاً لمقولة حياد لبنان (هذه العبارة المخادعة) في صراعات المنطقة؟
ولكن دعونا جدلاً نصرف النظر عن الأمة العربية والإسلامية، ولنلتفت إلى لبنان. أليس من المفروض بالمسيحيين المشاركة الفعلية، النظرية والعملية، السياسية والعسكرية والإعلامية...، وقبل كل شيء الوطنية، في مواجهة هذا الغزو الصهيوني المدعوم أميركياً وأوروبياً؟ أليس حرياً بنا أن نتحدث عن الكيان الصهيوني بوصفه الجار العدواني والغاصب لفلسطين، ولبعض الأرض اللبنانية، والآسر لبعض شباب لبنان؟ وأليس من المفروض بنا، في ضوء «الإرشاد الرسولي»، أن نمارس التضامن في دعم المقاومة ورجال المقاومة، ومن أضعف الإيمان «حماية ظهرها» وتكريم شهدائها ومساعدة النازحين جراء العدوان؟
هل الانتماء إلى الثقافة العربية والمصير الواحد الذي يربط المسيحيين والمسلمين يسمح لنا بكلام على الكيان الصهيوني بأنه مجرد «جار»؟ وهل يسمح لنا بالمراهنة على المجتمع الدولي الذي تخضعه الولايات المتحدة لأغراضها العدوانية على لبنان والمنطقة؟ ألم يسمع السادة المطارنة الموارنة السيدة رايس وهي تصف العدوان الصهيوني الأميركي البريطاني على لبنان بأنه مخاض الولادة لشرق أوسط جديد؟ ألم يدفع بوش باستمرار العدوان إلى أن باتت كلفته أكبر مما يتحمله الكيان الصهيوني بفضل صمود المقاومة وتضحياتها؟ ومع ذلك يراهن السادة المطارنة الموارنة على المجتمع الدولي، ويوجهون له التشكرات؟
لقد عملت الغالبية المسيحية، من خلال «التيار الوطني الحر»، في ضوء مقتضيات «الإرشاد الرسولي»، آخذة بعين الاعتبار الهواجس «المسيحية» من «تفرد» المقاومة الإسلامية بالسلاح، فأنتجت مع حزب الله «ورقة التفاهم» المؤسسة لاحتمال تضامن وطني فعلي، فما كان موقعها في النداء السابع؟ وكان سبق لها أن طرحت وسيلة لحل الإشكال المتعلق برئاسة الجمهورية، ولكن الغالبية المسيحية لا تستحق مجرد التفاتة في توجه المطارنة الموارنة؟!
ثمة الكثير في النداء السابع مما يستحق النقاش. ولكن ثمة مساءلة (نقتصر عليها) يطرحها الشارع المسيحي على رعاتهم المطارنة. قد تكون هذه المساءلة خجولة الصوت الآن، حرصاً على كرامات المرجعيات الروحية. ولكن رعية لا تُحفظ كرامتها لا تستطيع المحافظة على قدسية مرجعياتها الروحية عندما تتخلى عنها هذه المرجعيات. فهل يعقل السادة المطارنة عظيم ما يفعلون؟
* رئيس تحرير «العرب والعولمة»