ليلى نقولا الرحباني *
إن التغيير الذي طرأ على الساحة السياسية والاستراتيجية الدولية، بعد بروز الاتحاد السوفـــــياتي كقطب ثان، أدت الى اعتماد سياسة « الاحتواء» وتأمين «التــــفوق الاستراتيجي الشامل» الذي تكرس فعـــلياً في أعقــاب نهاية الحرب الباردة. فإنهيار « امبراطـــــورية الــــشر» (كــــما اسماها رونالد ريغان) أعـــطى الحـــــق للولايات المـــــتحدة في اللجوء الى القوة لحل الـــنزاعات وفرض سيطرتها على الدول الأخرى، لكنه بالتزامن مع ذلك ، ألغى مبررات حال الطوارئ القومية السائدة بسبـــب غياب العدو. وكــــمـــا كــــتـــب باحثان أميركيان « كان يمكن الاعتقاد بأن المحافظين الجدد ، سيفرحون بموت عدوهم . لكن ذلك لم يحصل ، بل راحوا يبحثون عن « شيطان جديد» قادر على توحيد الشعب... عدو يذكّر الأميركيين بأن ثقافتهم وأمنهم معرضّان للخطر».
فمَن أفضل من «الإرهاب الأصولي « و «الدول المارقة» لتحويل الأنظار إليهم ، خاصة بعد أحداث 11 أيلول، التي رجّحت كفة اليمين المحافظ في التوازنات المؤسساتية، وأتاحت المجال للعسكرة والحروب «الوقائية» في السياسة الخارجية؟ .
ثالثاً:الايديولوجيا و»المصلحة القومية»
إذا كان الفصل بين السياسة والدين ،أي بين الحرية السياسية والحرية الدينية هو فصل اصطناعي ، فإن الفصل بين الداخل والخارج هو فصل حاد في السياسة الخارجية الأميركية ، فالنظام والأمن والحرية والديمقراطية والعدالة للداخل الأميركي، والهيمنة والتسلط والفوضى سمة علاقاتهم الدولية .
ان الإيديولوجيا السائدة في أوساط الانتلجنسيا الاميركية القائمة على الليبرالية، بشقيها الاقتصادي والسياسي، وعلى تفوق القيّم الاميركية ، ليست جديدة . فالخلفية الفكرية للمصلحة القومية للولايات المتحدة الاميركية استندت منذ القدم الى عناصر التجارة والانفتاح والديمقراطية والثروة، وهي حاضرة دائماً في وجدان الاميركيين انطلاقاً من نظرة الى الذات ترى « أميركا أمّة ممّيزة بالرسالة التي رآها الله جديرة بها ، مما يجعلها فريدة في التاريخ»، ومقولة «إن سيطرة أميركا على العالم هي لخيره قبل خيرها».
والجدير بالذكر أن الأميركيين ينطلقون من فكرة أن الخصم هو كل من ليس معهم ، وليس بالضرورة كل من ليس مع الغرب. وكل من لا يتبنى قيّمهم أو طريقة عيشهم يُشار اليه بالبنان حتى ولو كان أوروبياً. وما تهديد جورج بوش الشهير :»إما معنا أو مع الارهاب « سوى دليل ساطع على قيّم أميركية ما زالت مستمرة منذ تأسيس الجمهورية.
بالمقابل، يُلاحظ أن المد الإمبريالي للاقتصاد الأميركي أسس لنزعة اقتصادية اجتماعية تستحكم بالوجدان الأميركي الى حد كبير، حيث لم يقم الأميركيون بالتجديد للرئيس جورج بوش الأب بالرغم من إنتصاره في حرب الخليج الثانية،وذلك بسبب التراجع الكبير الذي شهده الاقتصاد الأميركي في تلك الحقبة.
واستطراداً ، لا يمكننا النظر الى حروب ما بعد 11 أيلول بمعزل عن الإيديولوجيا الأميركية ودوافعها الاقتصادية. إذ إن ما يقوم به الأميركيون اليوم في الشرق الأوسط ليس صراعاً من أجل تعزيز قيم الديمقراطية والعلمانية وحقوق الانسان كما يدّعون ، فالولايات المتحدة غير مكترثة بدمقرطة أي بلد ما لم توظف هذه الدمقرطة لخدمة مصالحها.
إن قيم الحرية والديمقراطية ليست سوى شعارات أدواتية تخضع للمنطق البراغماتي المصلحي ، ودافعاً الى المزيد من التوسع والسيطرة. وما الانتخابات البرلمانية اللبنانية 2005، التي قامت على أساس قانون سوري مزوّر للإرادة الشعبية، وتم وصفها من قبل الاميركيين بالنزاهة والديمقراطية، سوى أبلغ دليل على ذلك.
في النهاية ،إن المتابعة الدقيقة والمتأنية لجوهر السياسة الخارجية الاميركية، ولطبيعة الدور الاميركي على مر العهود الرئاسية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية، تفيدنا بأن هناك نظرية أساسية تحكم هذه السياسة ،هي :» إن قيم أميركا ومؤسساتها وآلياتها ، لا بد وأن تمتد الى العالم كله». قد تختلف الأساليب الآيلة لتحقيقها، بإختلاف الأنظمة العالمية والتطورات الدولية، لكن مما لا شك فيه أن الاستراتيجية الأميركية أي سياسة «التوسع الامبراطوري» ما زالت كما هي منذ ما قبل 11 أيلول .
نلاحظ أنه بعد 11 أيلول، ومن خلال تحويل الحرب من مكافحة للشبكات الإرهابية عبر الوطنية الى مواجهة مع دول «محور الشر»، تتابع إدارة بوش مشروعاً سياسياً واستراتيجياً تم تحديده في السبعينات ، وأُعيدت بلورته في التسعينات من أجل أن يتوافق مع حقبة ما بعد الحرب الباردة. فعقيدة «الحرب الوقائية» التي أعلن عن تبنيها في أيلول 2002، والتي شكلت سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، تندرج في سياق مثابرة اليمين الراديكالي والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة لبسط سيطرتهم على العالم عن طريق الحرب»الوقائية» وهو ما كان متعذراً قبل هذا التاريخ.
بلا شك، إن صباح الطائرات في 11 أيلول شكل منعطفاً كبيراً في تكتيك الولايات المتحدة الأميركية وليس في استراتيجيتها بأي شكل من الأشكال.
(حلقة ثانية وأخيرة)
*باحثة لبنانية في القضايا الإستراتيجية