بولس خلف
إنّ خطاب المجموعة الحاكمة اليوم في لبنان خفيف لدرجة أن تفكيكه لا يحتاج إلى جهد مضنٍ. منطقها يتركز على مبدأ وحيد هو بسط سيادة الدولة على كامل أراضيها. طبعاً، هي لم تتحدّث في يوم من الأيّام عن بسط سلطة الدولة على كل قطاعاتها. لأنّه لو حصل ذلك لاستوجب إزاحة عدد كبير من الذين يحكمون اليوم، وزجّ عدد أكبر منهم في السجون.
المجموعة الحاكمة تريد نزع سلاح المقاومة تحت شعار بسط سيادة الدولة على كل الأرض حتّى لو استلزم ذلك تقاسم السيادة والجغرافيا مع أكثر من عشر دول «صديقة».
إنّ مهمّة الدول هي حماية مواطنيها من المخاطر الداخلية والخارجيّة، والسيادة هي الوسيلة (والهدف) لتحقيق هذه المهمة. الدولة في لبنان عاجزة عن ذلك في المجالين. في كل الأحوال، إن أدبيّات المجموعة الحاكمة خالية تماماًً من أيّ إشارة إلى حماية المواطن من المخاطر الداخلية التي تحدق به، والمقصود هنا المخاطر الاقتصاديّة والاجتماعيّة والطائفيّة وتلك الناجمة من النظام السياسي المتخلّف.
سيادة الدولة اللبنانيّة هي غير مكتملة منذ ولادة لبنان، لا منذ نشوء المقاومة. هناك تشوّهات بنيويّة في النظام السياسي اللبناني تمنع الدولة من بسط سلطتها وممارسة سيادتها داخليّاً وخارجيّاً. فنظام الطائفيّة السياسيّة ليس إلا صيغة تسمح للطوائف بتقاسم سيادة الدولة في ما بينها. يعني، بتعبير آخر، أنّ الدولة قبلت بالتنازل عن جزء ليس ببسيط من سيادتها لمصلحة المجموعات الدينية. وهذا التنازل يطال أموراً تتعلّق بمسائل سياسيّة ووطنيّة وبقضايا تهم الحياة اليوميّة للمواطنين. ما دام مفهوم المواطنيّة لم يتبلور بعد والنظام لا يزال يعمل حسب مبدأ الطائفيّة السياسيّة فستبقى سيادة الدولة منقوصة.
وإنّ الدولة اللبنانية تنازلت على مدى عقود عن جزء من سيادتها الاقتصادية والاجتماعية والمالية لمصلحة الطبقات الميسورة. ولولا الحقبة الشهابية، التي وضعت أسس تطوير الطبقات الوسطى، لكان المتموّلون الكبار وأصحاب الوكالات التجارية الموروثة يسرحون ويمرحون في لبنان من دون حسيب أو رقيب.
والدولة في لبنان تخلّت عن «سيادتها العقاريّة» لمصلحة شركة تستثمر قلب العاصمة حيث لا سلطة فيه فوق سلطتها. وهي شركة أصبح لها جهازها الأمني وتوجهاتها «الوطنيّة» التي لا تنسجم بالضرورة مع ما تقرره الحكومة. فخلال العدوان الإسرائيلي رفضت هذه الشركة، على رغم المناشدات، إيواء أي نازح، وجرفت في جنح الظلام النصب التذكاريّة لشهداء المجازر الإسرائيلية التي أقيمت على بعد مئتي متر من خيمة 14 آذار.
وإنّ الدولة فشلت في تحصين سيادتها الخارجيّة وعجزت عن حماية مواطنيها من الأخطار الآتية عبر الحدود. فبعد اتفاق الهدنة وقبل اتفاق القاهرة وبعده مارست إسرائيل عدوانيتها على الجنوب في غياب شبه كامل لأيّ ردّة فعل من الدولة. فأهالي حولا وكفرشوبا وغيرها من القرى، والرّعاة في مزارع شبعا والصيّادون في رأس الناقورة، عندهم الكثير ليقولوه عن خطر إسرائيل الذي لم يغب يوماً منذ 1948 وعن دولتهم التي بالكاد كانت تعترف بوجودهم.
وها هي هذه المجموعة الحاكمة تطالب اليوم بنزع سلاح المقاومة. اذا كان هدفها فعلاً استعادة سيادة الدولة فالأجدر بها أن تشكر وتكرّم المقاومين الذين قدموا الغالي والرخيص لحماية لبنان من المخاطر الخارجية وحموا بالتالي هذه السيادة التي تتغنّى بها في كل خطاباتها.
إن السيادة، حسب مفهوم الطبقة الحاكمة، تأتي عبر دولة قوية بضعفها إنما مهذبة. حفلة الشاي في مرجعيون خير دليل على ذلك. ولكن هناك في بنت جبيل ومارون الرأس والخيام وعيتا الشعب ووادي السلوقي وغيرها من البلدات من كتب بالدم مفهوماً آخر للسيادة ربما أقل تهذيباً ولكن بالتأكيد أكثر صرامة... ووطنية.