عمر نشّابة
قال راعي أبرشية جبيل وتوابعها للموارنة المطران بشاره الراعي ردّاً على الأصوات المطالبة باعتذار البابا بينيديكتوس على كلام ورد في محاضرته: "نأسف لمن طلب من قداسة البابا بينيديكتوس السادس عشر اعتذاراً. إنها إهانة كبيرة لشخص قداسته وإهانة لمن طلب الاعتذار. عليهم طلب "عدم المؤاخذة" لعدم قراءة نص المحاضرة".
قرأت نصّ المحاضرة بتمعّن وأعتقد أن طلب اعتذار البابا فيه وجهة نظر، فليسمح لنا راعي الأبرشية أن نقول إن كلام البابا ليس منزلاً وإنه قد يخطئ مثله مثل سائر البشر.
إن اعتذار البابا يجب أن يكون تناسباً مع قواعد الأخلاق لا مراعاةً للمسلمين فقط. إن نقل كلام فيه قدح وذم بحقّ شخص آخر، أياً كان، حتى وإن كان لا يعبّر الكلام المنقول عن قناعة كاتبه، يستدعي الاعتذار.
يستشهد البابا في نصّ المحاضرة، نقلاً عن البروفيسور ثيودور خوري، بالأمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوغس وقوله عام 1391: "ما الجديد الذي أتى به محمّد غير الأشياء الشيطانية وغير البشرية كأمره بنشر الإيمان بالسيف" (والمعذرة عن نقل هذا الكلام المعيب الذي يجرح مشاعر ملايين الناس). لا أعتقد أن هناك مشكلة بفتح نقاش حقيقي حول الإيمان والعنف والأساليب التي استخدمتها مختلف المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية وغيرها عبر التاريخ بهدف نشر رسالتها ومعتقداتها وتوسيع قواعدها الشعبية. والمشكلة لا تتعلّق بمضمون كلام البابا بقدر ما تتعلّق بالمنهجية التي اعتمدها في صياغة نصّ محاضرته وإغفاله المعايير الأخلاقية الملزمة أكاديمياً. فالعبارات التي استخدمها البابا أو (لنكون دقيقين) العبارات التي نقلها عن الأمبراطور البيزنطي، تؤلم المسلمين وتغضبهم. وكيف لا يوافق راعي أبرشية جبيل أنّ استخدام عبارات "شيطاني" و"غير بشري" مهين لملايين من الناس ينظرون إلى محمّد كما ينظر هو إلى المسيح؟
طلبت الكنيسة المارونية في لبنان سابقاً منع كتاب دان براون "دافينتشي كود" لأنه لا يحترم السيد المسيح ويروي كلاماً مهيناً بحقّه، كما دعا الفاتيكان الى الامتناع عن "قراءة" كتاب شيفرة دافنشي الذي سجل مبيعات قياسية في العالم. وقال يومها الكاردينال تارسيزيو بيرتوني لإذاعة الفاتيكان حول الكتاب "لا يمكن صنع رواية بإضفاء طابع مخادع على وقائع تاريخية والتشهير بشخصية تاريخية تنبع مكانتها وشهرتها من تاريخ الكنيسة والبشرية". وعبر بيرتوني عن أسفه لانتشار الكتاب بين الشبان، موضحاً أن ذلك "أمر مؤلم ورهيب". أليس القول إن محمّداً "شيطاني"، حتى ولو كان ذلك نقلاً عن مصدر، "تشهيراً بشخصية تاريخية تنبع مكانتها وشهرتها من تاريخ البشرية"؟ أليس نقل هذا الكلام وانتشاره عبر لسان البابا "أمر مؤلم ورهيب" لملايين المسلمين؟
كيف يسمح البابا لنفسه نقل كلام يتضمّن سباباً لرسول نقل رسالة من الله الى الناس ليسلموا؟ وكيف يسمح راعي أبرشية لنفسه أن يقول إن كلام مفتي المملكة العربية السعودية ومجلس الشعب المصري ومجلس الشعب الأردني (دون أن يسميهم) إهانة لهم بعد طلبهم اعتذار البابا على نقله سباباً موجهاً للنبي محمد؟
في خطاب لاحق، أعلن البابا أنه لا يعني ما ذكر في نصّ محاضرته وأن الكلام منقول ولا يعبر عن رأيه. لكنه لم يعتذر بشكل واضح ومباشر. لقد درست تعاليم السيد المسيح في المدرسة والجامعة، وأُعجبت بقيم المحبة والغفران والتسامح والاحترام والتواضع التي يهديها المسيح للبشرية لتلتزم بها. لماذا يخرج البابا عن تلك القيم؟ لماذا لا يتواضع هو وراعي الأبرشية التابع له ليتفهّموا آلام الناس كما علّمنا المسيح كيف يكون المسيحي الحقيقي؟
لقد أخطأ البابا بذكره كلام الأمبراطور البيزنطي كاملاً لأنه كان يمكن أن يتحفّظ عن ذكر عبارات التجريح والسباب والإهانة. كان ذلك التحفّظ ضرورياً لأن البابا نفسه ذكر في مقدمة محاضرته أنها لا تتناول موضوع "قواعد الحياة" في الكتاب المقدس وفي القرآن، ولكنه سيكتفي بذكر مسألة "هامشية" في هذا النقاش. وبالتالي فإن ذكر كلام الأمبراطور البيزنطي الذي يستخدم عبارات مهينة للرسول، هامشي، في محاضرة البابا. وما يحيّر هو سبب اختيار البابا لهذا الكلام المهين دون التحفّظ عليه والاعتذار في نصّ المحاضرة نفسها على استخدامه؟
إن مطالبة ملايين الناس باعتذار واضح ومباشر من الحبر الأعظم مسألة أخلاقية وليست دينية أو طائفية. فلا يحقّ لأي شخص مهما علا شأنه أن يشهّر بشخص آخر، ومن حقّ المتضرّر أن يطلب اعتذاراً من ناقل التشهير. وأتمنى أن يلتزم راعي أبرشية جبيل بالأخلاقيات الرفيعة التي علّمنا إيّاها السيد المسيح ويكفّ عن الاستكبار والتعالي على غيره من البشر الذين تألّموا من التشهير بنبيّ الله.