زياد حافظ*
لكن هذا نقاش قائم بحد ذاته لم تتوافر حتى الآن الإرادة الحقيقية للقيادات اللبنانية وممثلي مجموعات المجتمع الأهلي لمعالجة جادة لتلك القضية. إن بناء الدولة الحديثة غير الطائفية يعيد صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل يمكّن المحكوم من مساءلة الحاكم ويجعل الأخير مسؤولاً عن المحكوم. غير أن أي حديث عن بناء الدولة لا بد من أن يواجه مسألة البنية الطائفية للمجتمع اللبناني وتداعياتها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
في هذا السياق أعتقد بأن مشروعين سياسيين اقتصاديين سيتنافسان أو سيطرحان على طاولة البحث عاجلاً أو آجلاً. المشروع الأول هو إعادة البناء والعودة إلى بنية اقتصادية لما قبل الحرب ــ أي بمعنى آخر استكمال ما قام به الرئيس المغدور رفيق الحريري والخلفية السياسية الاقتصادية لذلك المشروع مع بعض التعديلات التي تخفف من إهمال الناحية الاجتماعية لتلك الرؤية. فطبيعة النظام الاقتصادي المتّبع حتى الآن هي النظام الليبرالي بشكل عام والمستند إلى قطاع خدماتي مبني على توزيع الريع الداخلي والخارجي مما يشجع نظام المحاصصة بين الفئات الحاكمة، ويعفي القائمين على أمور الدولة من المساءلة. فالفساد أصبح شريعة التعاطي والمعطل لقيام الدولة بمسؤولياتها. أما المشروع الثاني فهو إعادة إعمار لبنان على قاعدة أن لبنان دولة مواجهة ما دامت إسرائيل مستمرة في أطماعها التوسعية وفي اعتداءاتها على لبنان. وإذا أردنا تشخيص الأزمة البنيوية التي حالت دون نمو متوازن في لبنان فهي:
أولاً ــ التركيبة الطائفية والمذهبية للمجتمع اللبناني التي ذكرت نتائجها في إنشاء دولة الحاجز وتعميم ثقافة القناصل كمحصلة تاريخية للمرجعيات السياسية الخارجية للطوائف والمذاهب.
ثانياً ــ موقع لبنان «المسلوخ أصلاً عن امتداده السوري» والمتكوّن في ظروف تاريخية معروفة وما نتج من صراعات داخلية منذ ما قبل الاستقلال وحتى هذه اللحظة.
ثالثاً ــ إنشاء لبنان ضمن نظام يقوم في الجوهر على التمييز بين «الفئات» والامتيازات لبعضها على حساب البعض الآخر «الأمر الذي جعل هذا الاقتصاد ويجعله، بشكل عام، اقتصاداً غير ممركز في الداخل، منكشفاً دائماً على الخارج، ويكاد أن يكون صاحب المرتبة الأولى بين الدول في اعتماده على البعد الخارجي». هذه العوامل (وهي على سبيل المثال لا الحصر) جعلت من الاقتصاد اللبناني عبارة «عن مجموعات من الموارد المتفرقة من نشاطات متنوعة في فروع مختلفة جعلته مجموعة من الجزر الصغيرة المبعثرة» (بالإذن من الأستاذ عبد الكريم الخليل). وقد حال هذا التبعثر في مصادر الموارد الداخلية وفي الانتماءات الطائفية والمناطقية دون قيام بنية اقتصادية تقود إلى إقامة مؤسسات كبيرة على رغم بعض المحاولات التي قامت بها أطراف خارجة عن «أهل البيت» لمركزة النشاطات سرعان ما قام أرباب «أهل البيت» بإجهاضها. هكذا يجب قراءة تجربة يوسف بيدس في بنك «أنترا»، وهكذا يجب فهم إجهاض دولة المؤسسات بتحالف البيوت السياسية على إفشال الإصلاحات التي باشرها الرئيس الراحل فؤاد شهاب بعد قراءة ودرس عميق قامت بهما بعثة «إرفد» عامي 1958 و1959.
لا داعي للتحدث عن أي إصلاح سياسي واقتصادي ما لم تحسم قضية دور لبنان في المواجهة. وما دامت القوى السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية لم تباشر بشكل جدي في بحث هذا الموضوع فلا جدوى من القيام بأي تكهن حول مستقبل لبنان الذي سيستمر في تعرضه للهزات السياسية والأمنية وما يرافق ذلك من عدم استقرار وتفشي الإحباط إن لم نقل اليأس عند الشباب اللبنانيين الذي سيضعون في سلّم أولوياتهم الهجرة إلى الخارج.
(حلقة ثانية وأخيرة)
*كاتب عربي لبناني مقيم في الولايات المتحدة