بسام الهاشم*
منذ أن وضع العدوان الإسرائيلي على لبنان أوزاره، تجددت المطالبة بإبدال الحكومة القائمة في لبنان، عملاً باتفاق الطائف، بحكومة وحدة وطنية يشارك فيها تيار العماد ميشال عون، باعتباره القوة السياسية الوحيدة المستبعدة من المشاركة في الحكم على رغم جسامة استقطابها الشعبي وسعة تمثيلها النيابي (21 نائباً من أصل 128، أي ما يساوي سدس المجلس). وكان هذه المرة في طليعة المطالبين بالتعديل الحكومي هذا أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله. فإذا بالرئيس فؤاد السنيورة يسارع ــ متسلحاً بالديموقراطية التي تظلّلنا! ــ إلى إقفال الباب أمام أي استعداد لتلبية مطلب كهذا، بل يذهب إلى حد الخروج عن رصانته المعهودة بدعوة المنادين به إلى أن «يحيكوا بغير هالمسلة». «نحن في نظام ديموقراطي واستمرار الحكومة منوط بالثقة التي يمنحها إياها مجلس النواب... ليطمئن الجميع، إن هذه الحكومة باقية ما دامت تحظى بموافقة مجلس النواب وثقته». إن هذا ما قاله الرئيس السنيورة، قبل أسبوع في مصر، رداً على سؤال عن مصير حكومته، وكان بطبيعة الحال يعكس من هنا الموقف الثابت للقوى السياسية المزكِّية له سواء في داخل المؤسسات أو خارجها. وهذا أيضاً ما كان قد قاله في بيروت قبيل مغادرته إلى السويد أواخر آب الماضي، في مؤتمر صحافي عقده آنذاك وقد كف عن البكاء الذي أحرج كبرياءنا الوطني إبان العدوان الإسرائيلي.
فعليه، يستطيع الرئيس السنيورة بالفعل الاعتماد على أكثرية نيابية لضمان بقاء حكومته حتى انقضاء ولاية المجلس الراهن. وهي، كما هو معلوم، أكثرية من 71 نائباً (كانوا 72 قبل وفاة المرحوم د. إدمون نعيم)، أي من نصف أعضاء المجلس زائد 7، يتشارك في تكوينها، إلى نواب كتلتي تيار المستقبل واللقاء الديموقراطي، من دار في فلك الكتلتين من نواب القوات اللبنانية، ولقاء قرنة شهوان وسواهم من المسيحيين، فضلاً عن نواب التكتل الطرابلسي. ولكن، هل دعم الأكثرية هذه كافٍ، لا في الشكل الديموقراطي وحسب، بل في الشكل والمضمون الديموقراطيين معاً، لشرعنة ما تصر عليه هذه الحكومة بلسان رئيسها من رفض لتغييرها أو لتعديلها؟
مما لا شك فيه أن دعم هذه الأكثرية كان ليكفي ديموقراطياً، لو كان تمثيلها للأكثرية الشعبية في البلاد حقيقياً، لا ترقى إليه الشبهات. بيد أن واقعها التمثيلي هو غير ذلك تماماً، وهي التي تضافرت في إنتاجها، ربيع 2005، ثم بعد ذاك في توفير الاستمرار لها، إلى انتهاكات صارخة للحريات والضمائر بالمال السياسي، ومتاجرة سافرة بدم الشهداء، وفتاوى ظالمة بحق المنافسين، وضغوط على أنواعها، ثلاثة عوامل متكاملة وغير مشروعة سنعرض لها باقتضاب في ما يلي: 1) مساوئ القانون الانتخابي ــ الجائر باعتراف الجميع، بمن فيهم المستفيدون ــ الذي على أساسه أجريت الانتخابات، 2) مفاعيل التحالف الرباعي، تحالف تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي مع ثنائي حركة أمل حزب الله، الذي قام عشية الانتخابات ثم ما لبث أن انفرط، 3) ما تبع الانتخابات من تعطيل متستر بذرائع واهية للمجلس الدستوري.
فأما القانون الذي على أساسه حصلت الانتخابات، فما كان في الحقيقة قانون عام 1964 الذي كانت البلاد قد وضعت طوال الأشهر الستة السابقة لموعد الاستحقاق الانتخابي في أجواء العودة إلى اعتماده. وهو الذي يعتمد الأقضية كأقضية بترسيمها القائم دوائر انتخابية، توخياً لبعض العدل بين القوى السياسية المتنافسة على اختلافها، لا هنا القضاء، وهناك المحافظة، وهنالك هذا التقسيم المغاير أو ذاك. لقد كان هذا القانون بالعكس هو قانون عام 2000، أو قانون «المحادل الانتخابية» كما سماه البعض، العائد بأبوّته إلى المفوض السامي السوري آنذاك، صديق السيد وليد جنبلاط وآل الحريري، اللواء الراحل غازي كنعان. وهو الذي تم بعثه فجأة، ومن دون سابق إنذار، على أنقاض قانون 1964 الموعود، في السابع من أيار 2005، يوم عودة العماد عون المظفرة إلى الوطن من منفاه القسري.
إن أسوأ ما في قانون غازي كنعان هذا أنه، بفعل التقسيمات الانتخابية المفصّلة على القياسات والقامات، التي يرسيها، لا يسمح بقيام تمثيل صحيح للمسيحيين إلا في دائرتي المتن وكسروان جبيل حيث لا وجود لغير المسيحيين إلا قليلاً، كما بدرجة أدنى في دائرة زحلة البقاع الأوسط حيث التوازن الديمغرافي الإسلامي المسيحي مصان نوعاً ما، بينما هو، في جميع الدوائر الأخرى، حيث المسيحيون أقليات وسط أكثريات إسلامية حاسمة، يحد إلى أقصى الممكن من قدرة الناخبين المسيحيين على التأثير في نتائج الانتخابات لمصلحة القوى («المحادل») السنية والشيعية والدرزية المهيمنة (أي تباعاً تيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي). إن هذا في الحقيقة ما جاءت نتائج انتخابات 2005 مجسدة له، إذ فازت «المحادل» المشار إليها في كل مكان باستثناء كسروان جبيل والمتن وزحلة، فيما العماد عون، الذي نال مرشحوه 75% من أصوات المقترعين المسيحيين في جميع المناطق على سبيل المثال، ما استطاع أن يوصل إلى القبة البرلمانية أكثر من 19 نائباً مسيحياً (من أصل نوابه الـ 21)، أي ما لا يتعدى 30% من مجموع ممثلي المسيحيين الـ 64 في المجلس. فيا لَصِحة التمثيل النيابي للشعب!
أما في ما يتعلق بالتحالف الذي قام عشية الانتخابات بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وثنائي حركة أمل حزب الله، فقد قام في الأصل، كما اتضح لاحقاً من البيان الوزاري لحكومة الرئيس السنيورة، على أساس تعهدات مغرية قطعها الثنائي السني الدرزي للثنائي الشيعي بشأن المقاومة والاعتراف بدورها ودعمها، لقاء الحصول على أصوات الناخبين الشيعة في انتخابات دائرة بعبدا ـ عاليه. وهو (أي التحالف) ما أفضى بالنتيجة إلى إعطاء الأكثرية العتيدة، أكثرية الحريري وجنبلاط، ما كان ينقصها من مقاعد نيابية لتصبح أكثرية. غير أن التجربة اللاحقة للثنائي الشيعي في الحكم مع حليفيه الانتخابيين ما لبثت أن دفعته إلى الانفصال عنهما لاكتشافه أن تعهداتهما المقطوعة تلك كانت مجرد خدعة. فعليه، لأن الأوطان لا تبنى على قاعدة العمل بالمثل القائل: «أكل الطعم و... عالصنارة»، لو كان عند حكامنا بعد بقية من احترام لحقوق الناس وكراماتهم، بل لبعض حدود الأخلاق، لكان لزاماً عليهم أن يبنوا على انفراط التحالف الرباعي مقتضاه السياسي فيسلِّموا ببطلان ما نتج منه قبل سنة ونيف من مفعول انتخابي، ولكانوا يسلمون إذن بأن أكثريتهم المزعومة ليست بأكثرية!
وأما في ما يتعلق بالمجلس الدستوري، فقد كانت وما زالت الغاية الوحيدة من تعطيله المتعمد ــ ونقولها بالفم الملآن: المتعمد، كائنة ما كانت الذرائع المساقة لتبريره ــ الحؤول دون وصول الطعون المقدمة من قبل تكتل التغيير والإصلاح في فوز 11 (باتوا اليوم 10 بعد رحيل المرحوم الدكتور نعيم) من نواب «الأكثرية» الحاكمة، بل المتحكمة، إلى نتائجها المرجوة. ذلك أن نتائج الطعون هذه، فيما لو تم بلوغها، كانت، وللبداهة، لتحيل الأكثرية الراهنة في المجلس، أكثرية النصف زائد 7 فقط، إلى أقلية والأقلية إلى أكثرية، بعدما صار تساكن وزراء حزب الله وحركة أمل مع وزراء «الأكثرية» داخل الحكومة، بالنسبة إلى الثنائي الشيعي، بمثابة أكره الحلال.
فعليه، بالنظر إلى مدى الزيف الواقع في تمثيل «الأكثرية» النيابية للأكثرية الشعبية، يتضح جلياً أن الديموقراطية التي بها تتشدق حكومة السنيورة لتبرير بقائها في الحكم ، وهي التي، للمناسبة، عجزت عن أي إنجاز يذكر في غضون 15 شهراً ، لا تعدو كونها مهزلة سمجة، بل إنها مجرد قناع يمارس المعنيون من ورائه أبشع أنواع اغتصاب السلطة والاستبداد.
والحق أنه لو كانت الديموقراطية في بلادنا اليوم على غير ما أمست عليه من تعهير وتغييب فظ لإرادة الشعب، لكان لزاماً على الرئيس السنيورة لا أن يستقيل وحكومته لإخلاء المجال أمام حكومة أكثر اقتداراً وتعبيراً عن الإرادة الشعبية فقط، بل أن يبادر فوراً إلى استصدار ما لزم من تشريعات لم يلحظها اتفاق الطائف ــ جل جلاله! ــ لحل مجلس النواب الراهن وانتخاب آخر مكانه وفقاً لقانون أكثر إنصافاً، في أقرب وقت.
* رئيس لجنة التثقيف السياسي في التيار الوطني الحر