خورشيد دلي*
ازداد الجدل بين القوى والأطراف العراقية حول مسألة إقامة نظام فيدرالي في العراق، ولعل مصدر هذا الجدل المتصاعد هو اختلاف رؤية هذه القوى للفيدرالية كنظام ومفهوم سياسي حيث وصل هذا الاختلاف في كثير من جوانبه إلى درجة التناقض ويمكن تقسيم هذه الرؤى حسب القوى العراقية إلى رؤيتين.
الأولى: تمثلها القوى المصنفة سنّية وهي تمثل التيار القومي العربي بتلاوينه المختلفة وترى هذه القوى ان الفيدرالية هي مقدمة لتقسيم العراق إلى دويلات، وأنها ستؤدي إلى إذكاء الصراع الطائفي في البلاد وخاصة مع ازدياد مؤشرات حدوث حرب أهلية في ظل العمليات والهجمات التي تسفر يومياً عن مقتل وجرح العشرات وتدمير كبير يطال مختلف المؤسسات العراقية المدنية والعسكرية معاً.
الثانية: تمثلها القوى الكردية في الشمال (كردستان) بالدرجة الأولى، والشيعية في الجنوب بالدرجة الثانية، وترى هذه القوى على اختلاف نظرتها إلى الفيدرالية أن هذه الأخيرة تشكل ضمانة لعدم عودة الديكتاتورية وطريقة عقلانية لإدارة البلاد وتوزيع السلطات وممارسة الحكم والديموقراطية وتوزيع الثروات فضلاً عن استمرار التجربة السياسية الناشئة في العراق بعد الاحتلال، وانه يعول عليها في وضع أسس عملية التنمية الشاملة بعيداً عن مفاهيم المركزية التي حصرت السلطات والقرارات بالعاصمة بغداد في المراحل السابقة.
في الواقع، مع المبررات التي يسوقها الطرفان والتي تبدو منطقية لدى الجانبين نظراً لتعقيدات الوضع العراقي وحمل المشهد السياسي العراقي أكثر من وجه في ظل الاحتلال، فانه يمكن القول ان ثمة عوامل تجعل من هذا الجدل.. جدلاً قابلاً للنقاش والحوار على أمل إيجاد نقاط مشتركة يتفق عليها الجانبان من اجل استمرار مسيرة العملية السياسية واستكمال مؤسسات الدولة العراقية شرط التنبه إلى جملة مسائل وبعقل منفتح كي لا تبدو الفيدرالية مجرد فكرة أميركية ــ إسرائيلية كما يقول البعض من دون ان يعني هذا نسيان مخاطر التقسيم واحتمال اندلاع الحرب الأهلية، ولعل أهم هذه النقاط:
1ــ ان الفيدرالية تبدو حتى الآن بالنسبة إلى منطقتنا فكرة غربية قادمة عبر الأطلسي، أي إن المنطقة تفتقر إلى ثقافة الفيدرالية ومفاهيمها على صعيد الإدارة والحكم وأسلوب التنمية فيما لا تزال الأفكار الايديولوجية سواء القومية أو الدينية الضيقة تتحكم بأنساق التفكير، ولعل هذا ما يدفع بالعديد إلى رفض الفيدرالية من دون التمعن في فوائدها المستقبلية وخاصة ان البعض الآخر يرى ان الفيدرالية لا تعني التقسيم ـ بل وحسبهم ـ أصبحت طريقة وحيدة لتوحيد العراق وحفظ وحدته الجغرافية بعد ان قطعت الأقاليم العراقية ولا سيما الشمال الكردي أشواطاً بعيدة في مجال التأسيس لبنية محلية في الحكم والإدارة، وهؤلاء يستشهدون بتجربة كردستان العراق في التأسيس لمثل هذا الحكم وتحقيق أمن نسبي مقابل الوضع المتفجر في الوسط.
2ــ ان الفيدرالية كمفهوم تم الموافقة عليه بموجب استفتاء كما تم إقراره دستورياً ووافقت القوى التي تعترض على الفيدرالية على هذا الدستور، وبالتالي الرجوع عنه يشكل انتكاسة سياسية للعملية السياسية الجارية ويشرع الباب أمام تعميق الانقسامات السياسية والتدخلات الخارجية، وبالتالي فإن الرفض هنا قد يكون طريقة للتقسيم، وعليه فإن من يرفض الفيدرالية التي أسست دستورياً قد يتسبب بالتقسيم ودفع العراق إلى المجهول.
3ــ ان البحث عن عراق جديد معافى يتعايش فيه الجميع بسلام ووفاق يتطلب الاقتداء بتجارب ناجحة في الحكم والنظام والإدارة والتنمية، وهؤلاء يستشهدون بالتجارب الفيدرالية التي سادت أوروبا مع اختلاف نماذجها والتي حققت في النهاية لأوروبا نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية حققت لدولها المزيد من التقدم. من هذه العوامل السابقة.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هو لماذا رفض الفيدرالية والنظر إليها كأنها تعني التقسيم لا أكثر؟ إذا كان الجواب هنا ينصب في خانة الإيجابية فإن مثل هذه الإيجابية تستند إلى ثلاث مسائل أساسية هي من نتاج الواقع العراقي.
الأولى: تعدد مكونات الشعب العراقي، قومياً (عرب ـ أكراد ـ تركمان ـ أشوريون) دينياً (إسلام ـ مسيحية) وطائفياً (شيعة ـ سنة) وبالتالي مثل هذا التعدد يتطلب نوعاً من الإطار القانوني والسياسي لحماية الخصوصية والاستقلالية المحلية أولاً، ومن ثم لضمان المشاركة والتمثيل في الحياة السياسية ثانياً، وبالتالي نيل الاهتمام في مجال المشاريع والتنمية والبناء ثالثا.
الثانية: ان تجارب الحكم السابقة في العراق والتي اتسمت بالمركزية وبحكم الحزب الواحد وصولاً إلى دكتاتورية صدام.. هذه التجارب وما خلفتها من انقسامات ومآس في مختلف مناطق العراق أدت إلى قناعة لدى معظم القوى العراقية بأن أسلوب الحكم المركزي لم يعد يناسب إدارة الدولة العراقية وأن الفيدرالية كصيغة حكم قد تكون الأنسب لمنع عودة الحكم الدكتاتوري إلى البلاد.
الثالثة: البعدان القومي والجغرافي، إذ لا يخفى على أحد ان الإقليم الكردي في الشمال يحظى بخصوصية قومية كردية، وكإقليم فيه شعب كردي له مطالب وحقوق كثيراً ما كانت سبباً لحروب وصراعات بين الأكراد والحكومة العراقية المتعاقبة منذ ما قبل استقلال الدولة العراقية إلى الآن، ويرى الأكراد ان مطالبتهم بالفيدرالية مطلب قديم إذ طرح في المفاوضات التي جرت مع الحكومة العراقية في الستينيات والسبعينيات وقد أقر اتفاق 11 آذار عام 1970 بحكم ذاتي موسع هو أقرب إلى الفيدرالية. وانطلاقاً من هذه الوقائع أصبحت الفيدرالية صيغة مطروحة من قبل القوى السياسية العراقية بعدما كانت مطلباً كردياً صرفاً، إذ تبنى مجلس الحكم الانتقالي الذي تشكل بعد احتلال العراق هذه الصيغة رسمياً، ومن ثم أقره قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي صدر في آذار 2004 وتقول المادة الرابعة منه: إن نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي فيدرالي، يجري فيه تقاسم السلطات بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات. وأقرت المادة الخامسة من الدستور العراقي المؤقت مبدأ الفيدرالية. في الواقع، مع التأكيد ان الفيدرالية أضحت صيغة توافقية للحفاظ على وحدة الدولة العراقية إذ بغيرها يبدو ان التقسيم واقع لا محالة، ثمة مخاوف وعقبات تعترض الفيدرالية يمكن إجمالها في نقطتين.
1ــ ان هناك اختلافاً بين القوى، المتفقة على مبدأ الفيدرالية، على طبيعة هذه الفيدرالية، بين الأكراد الذين يطرحون الفيدرالية على أساس قومي جغرافي كصيغة لكيانهم القومي الخاص بهم، والشيعة (دعوة عبد العزيز الحكيم لفيدرالية الجنوب) الذين يطرحونها من باب طائفي شيعي لمسألة إدارة الجنوب، وبعض القوى (العلمانية) التي تنظر إلى المسألة من باب إداري لا أكثر فيما تبقى هناك مجموعات رافضة للفيدرالية من الأساس.
2ــ ان الفيدرالية كصيغة للحكم في العراق تثير مخاوف وحفيظة الدول المجاورة للعراق وبشكل خاص تركيا التي ترى فيها مدخلاً لإقامة دولة كردية في العراق ستنعكس بظلالها على أكرادها في الداخل، وعليه فإن الموقف الإقليمي بمجمله يأخذ طابع الرفض.من كل ما سبق، ينبغي القول ان العقلانية تتطلب التعامل مع الفيدرالية من زاويتين: الأولى، انها تقدم الحل لمشكلة مزمنة هي المشكلة الكردية. والثانية، انها تقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزياً. والسؤال: إذا كانت الفيدرالية تقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين في العراق وفي الوقت نفسه تشكل طريقة لهدم الجدار الثقيل من الشكوك وسوء الفهم بين الأكراد والعرب، فألا تستحق من الجميع عراقيين وغيرهم التوقف عندها وإعطاء الفرصة لها بعيداً عن الشعارات الجاهزة التي تساويها بالتقسيم؟
*كاتب سوري