نجيب نصر الله
وهمية الأغلبية الحاكمة هي غير أوهامها. رسم الخط الفاصل بين الوهمية والأوهام أمر حيوي وبالغ الأهمية، وله أن يساعد في تبيّن، أو الإمساك ببواعث التوجّهات التي تحكم وتظلّل أداء هذا الفريق الذي قيّضت له الأخطاء والخطايا، الاستئثار بمفاصل السلطة. إذا كانت الأدلة على وهمية النصاب الأكثري قاطعة ولا تقبل النقاش، فإن البرهنة على سيطرة الأوهام أكثر من متعذرة. الإنصاف يقتضي القول بأن طموحات الفريق وأهدافه بريئة من شائبة الأوهام. يمكن الإضافة والقول إن هذا الفريق يكاد أن يكون الأبعد عن كل ما له علاقة بالأوهام. إنه على النقيض من ذلك تماماً. إن وهمه على افتراض وجوده لا يقلّ عن أوهام الآخرين في فريق الأقلية النيابية. بل يمكن المجازفة والقول إن لدى الفريق الأكثري من وعي موقعه وأهدافه ما يتجاوز الآخرين.
كثيراً ما تلتبس الوقائع السياسية بحيادية كاذبة، حياديتها الكاذبة ربما تتصل بطبيعتها المراوغة. مضمون الكلام الجنبلاطي الأخير، لا يخرج عن السياق التصعيدي، الذي تفرضه موجبات الانكسار الذي لحق بحلقته الأهم، الحلقة العسكرية. التزويقات الكلامية القليلة، لجهة الاعتراف بانتصار المقاومة، لا قيمة لها، ولا تعبر أبداً عن النيات الفعلية. في المحصّلة، يبدو التصعيد السياسي، وربما الأمني، وسيلة عمل وحيدة لقوى الحزب الحاكم.
بناءّ عليه، لا يمكن النظر الى المشهد السياسي القائم، إلا في وصفه استمراراً للصراع الحاد بين خيارات الموقع السياسي المفترض للبنان، وتالياً التعامل معه على أنه امتداد، مباشر، للصراع السياسي والعسكري المتفاقم في المنطقة، بنتيجة العدوان الأخير، والوجود الغربي المباشر. كلام السيد وليد جنبلاط، برهان على هذه الحقيقة. إن التدقيق في نوع وحجم المصالح التي فرضت المراهنة على العدوان، تستدعي من دون أدنى ريب التواضع في توقّعات التهدئة، وخصوصاً أن شقاً كبيراً من عدم الاستقرار اللبناني الداخلي له علاقة وثيقة بالتزامات سياسية وأمنية موصوفة قطعتها رموز السيادة اللفظية، وللتذكير فإن هذه الرموز هي ذاتها التي سبق لها أن مكّنت نظام الوصاية السوري من البلد، لا بل كانت أدواته الضاربة. ومع ذلك، فإن الصعوبات التي تعترض مهمات استكمال الانزياح الكامل في موقع لبنان ودوره من قضايا المنطقة، وبالأخص منها تعثر العدوان، لا بل هزيمته، تفرض على القوى المتطوعة، أو المدفوعة لأداء هذا الدور، جنوحاً متزايداً الى استرهانه أميركياً، والاسراع في خطوات المصادرة الفاضحة لأجهزة الدولة ومؤسساتها.
اليقين الأكثري باستحالة كسر المقاومة، يدفع بالحزب الحاكم الى القفز في مجهول رهن البلد الى الخارج. ولو ان كل ذلك لن يبدد الإرادة التي يبدو أنها تحرك الحزب الحاكم نحو هدف الانقلاب الكامل على الوضعية السياسية. إن العجز «الأكثري»، المصحوب بصخب صوتي وإعلامي عالي النبرة، قد بلغ مدى يرتكز في جانب منه، على يقين حاسم لدى القوى الخارجية الفاعلة بصعوبة أو بتعذر التحقيق الفوري للشعارات والعناوين، التي ترفعها قوى الأغلبية النيابية، ويراد لها من جملة ما يراد، تصدّر المشهد السياسي، أو اختصاره في بضعة من العناوين، يمكن من طمس حقيقة أو جوهر الأزمة الناشبة في البلد، التي هي في جوهرها حول خيارات كبرى تمسّ الموقع السياسي العميق لكامل البلد، بين أقلية نيابية مستندة إلى أكثرية سياسية وشعبية، وبين أكثرية نيابية لا تمتلك انعكاساً شعبياً أو سياسياً حقيقياً، أو أقله ربط المخارج الممكنة بتحقيق الأهداف الموضوعة. إن اليقين الضمني بالعجز عن التفرد المطلق بالقرار السياسي للبلد واحتكاره، ربطاً بتعاظم الشلل في الأداء السياسي الحكومي، ربما هو الذي يجعل من الانقضاض الأمني أولوية هذه القوى، على حساب الواجبات الإغاثية التي يحتمها العدوان. إن مهمة الانقضاض هي تعزيز قدرة البعض، استعداداً لجولات أخرى أكبر وأشدّ، وخصوصاً أن استعادة المبادرة باتت محفوفة بمخاطر ليس أقلها الفوضى.