عبد الحليم فضل الله *
يتردد حديث الدولة في أروقة السياسة اللبنانية كما لم تعرف من قبل. العاصفة نفسها التي تغذّت من أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 وغزو العراق وصنعت ما قيل إنه “ربيع 2005”، تعصف من جديد، فإذا كان الخطر الإسرائيلي قد زال عام 2000 والاستقلال أُنجز مع خروج آخر جندي سوري، فنحن إذاً على تخوم الدولة العتيدة، ولا بأس من أن يكون العدوان الأخير صافرة انطلاق نحوها وممهداً لدوران عجلتها.
العنوان هو قيام الدولة، لكن المناسبة هي تقسيم اللبنانيين إلى معسكرين: أنصار الدولة والخارجون عليها، من تجديد لتصنيف انعكست آيته بين سياديين وغير سياديين. ويتضمن هذا الإيحاء التحريضي توظيفاً آخر لإحدى اللحظات الوطنية كما حدث مرات عدة في عامين حافلين، والنتيجة هي سلب الجمهور بالتراضي حقين يجعلانه مصدر السياسة وأساسها، حقه في منح المشروعية أو حجبها وحقه في المحاسبة والرقابة.
إن طرح سؤال الدولة في هذه اللحظة بالذات يرتبط بإمكانية من اثنين: فإما أن ما مرّ من أحداث يمهّد للانتقال من مرحلة تكون فيها الدولة متكيّفة مع شكل محدد للسلطة إلى مرحلة تتكيف فيها السلطة مع مشروع محدد للدولة يحظى بإجماع عام وقبول واسع، وإما أنه تعبير موارب عن الرغبة في أن تكون الدولة مرآة لمشروع سلطة جديد لا يتميز مما سبقه إلا في اختلاف نصابه الفئوي. الإمكانية الثانية يؤيدها تسلسل الوقائع الذي لم ينته منذ صدور القرار 1559، ومرّ على إعادة نظر مكتومة بالمبادئ السياسية لجمهورية الطائف.
المشكلة في لبنان هي هنا، في العلاقة بين الدولة والممسكين بزمامها، حيث تضيع محاولات بناء الدولة سدىً في دوامة مشاريع السلطة وأزماتها المتلاحقة كما حصل في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، لكن الحصيلة المستقرة في الذهن السياسي تجتزئ العبرة بخلاصة مبسّطة، تفيد بأن مقومات الدولة أضعف مما ينبغي قياساً الى المحيط، كأنها تحمل في وعيها طموحاً مضمراً إلى أن يجد لبنان مخرجاً لأزمته بالاقتباس من أمثلة في محيطه، متجاهلةً أن أزمة الدولة ليست حكراً عليه وحده، بل تنخر في أعماق المنطقة على اختلاف مسميات الدولة والأنظمة فيها، وتزداد عمقاً كلما ابتعدت هذه وتلك عن الأساس القومي الكفاحي الذي ارتبطت به واستمدت شرعية وجودها منه، لكن العديد من الأنظمة تداري أزمتها بطريقة يصعب على لبنان اتباعها، بنَت معادلة المجتمع/السلطة على أساس أرجحية مطلقة للأخيرة واستبدلت تداول السلطة بوظيفة إقليمية ثابتة لحساب النظام الدولي الواقع راهناً في قبضة الولايات المتحدة الأميركية. المقصود ربما من دعوة بناء الدولة وتشديد العبارة حولها في هذه اللحظة بالذات لو حملنا أصحابها على محمل الجد، تقديم طلب انتساب من لبنان إلى ما قد تصح تسميته “النظام الرسمي العربي”، الذي يقوم على عنصرين: الأول، الاستئثار الأقلّوي بالسلطة، فحتى لو توافر بلد ما على إرهاصات ديموقراطية، يجري امتصاص نتائجها داخل شبكات المصالح الداخلية والخارجية والعصبيات المنبعثة من رماد إخفاق المشاريع الوطنية والقومية، فلا يعود للغالبية معنى، وتوكل لصناديق الاقتراع فحسب القضايا الأدنى تأثيراً أو يناط بها توفير الغطاء الشرعي لنزعات غير مشروعة. العنصر الثاني، التحيّز والتشدد في الداخل في مقابل العجز والحيادية والاستتباع في الخارج.
يبدو أن الربط الضمني لمشروع الدولة في لبنان بهذا النظام يغفل أنه يمر في أكثر لحظاته حراجة ولو انه استفاد من تجدد الحاجة إليه مع الصعوبات التي يمر بها الأميركيون في المنطقة، ولكن ذلك لن يغير في شيء أزماته البنيوية التي قد لا تصمد كثيراً تحت ضغط التحولات، ومن بينها عجزه عن التأثير على مسار الأحداث طوال الفترة الخطيرة السابقة، وتراجع ثقة شعوبه بقدرته على ضمان استمرار معادلة “الأمن مقابل الحرية” أو “الاستقرار في مقابل الاستقلال”، وفشله في ردم الفجوة بين الوزن الاستراتيجي الراهن للمنطقة العربية ووزنها المفترض، وهذا ناشئ بدوره عن التناقض المرير في النظم السياسية القائمة بين مسار الدولة ومسار السلطة، ومرتبط كذلك بإهمال الشرط الخارجي والجيو ـ سياسي لقيام الدولة.
وهذه نقطة أخرى مهمة، يراد للبنان أن ينصرف ضمن رؤية أقلوية (أكثرية شكلاً) إلى توفير الشرط الداخلي لقيام السلطة بزعم أنه متعارض معها. بيد أن التناقض الراهن ليس بين مشروع الدولة (الأكثرية الحاكمة) واللادولة (المقاومة!)، إنه بالضبط بين مشروع السلطة الذي يعطل نواة الدولة، والمشروع الآخر الذي انصب اهتمامه منذ البداية على حماية هذه النواة وتوفير ظروف انبعاث المشروع الوطني وقيام المؤسسات من رحمه، ولم يكن متلهّفاً البتة إلى الإمساك بالسلطة كيفما اتفق وبمعزل عن طبيعة الدولة التي تمارس في إطارها.
فمنذ عقد ونصف عقد والمقاومة تعمل بمفردها تقريباً على تحفيز سيرورة تاريخية ذاتية المحتوى تحتضن في داخلها عوامل قيام الدولة، فهذه لا تستتب بالنيات الحسنة ولا بجبل من الشعارات المبطّنة، بل بأفعال “ثورية” تكلف تحويل عناصر التفسخ والانهيار الى عناصر تماسك وثبات، فبناء الدولة في نهاية المطاف جزء من سياق مترابط الحلقات يرتقي بارتقائه وينقضي بانفراط عقده، وهو أيضاً نتيجة وليس سبباً لدينامية نهوض لا بد من أن تكون سابقة عليه.
وإذا اعتبرنا أن مفاهيم السيادة والاستقرار والديموقراطية هي على سوية واحدة داخل مشروع الدولة المأمول للبنان، فإن خيار المقاومة هو العنصر الرابع الذي بوسعه كما فعل حتى الآن التوفيق بين الرؤية الوطنية وتقدير واقعي وعميق للتحديات الكبرى التي تواجه المنطقة وللترابط الذي لا يمكن التحلل منه بين مشاكلها، فهذا الخيار يفترض الآتي:
ــ إن قيام الدولة يتطلب مقاربة استراتيجية لا مقاربة داخلية فحسب، وهذا ما يستدعي موقفاً واضحاً من الصراع مع العدو وآخر من السياسات الأميركية بدلاً من وهم القطع مع ذلك الصراع، والتكتم الذي يضمر تحالفات ويعلن أخرى تجاه تلك السياسات. ونتيجة غياب مقاربة كهذه يتصاعد العنف السياسي آليةً سلبيةً للتعويض من فقدان المبادرة وضعف الداخل تجاه الخارج.
ــ إن الانفصال التام وفي اللحظة المناسبة عن المشروع الأميركي في المنطقة هو الضمانة التي ينبغي للبنان البحث عنها لتوفير استقراره، والوافدون المتأخرون الى هذا المشروع لم يعوا بعد خطورة اللعبة، فالسياسة الأميركية الراهنة تمر بأصعب أوقاتها وأweخطرها، بحيث تستهلك دولاً في بحثها عن مخرج وتبتلع أنظمة في مشاريعها القاتلة، ولا تولي اهتماماً يذكر للحلفاء كما أثبتت حرب لبنان الأخيرة.
يتطلب هذا الانفصال من لبنان حسم الموقف من ثلاث قضايا:
أولاً، العلاقة بالنظام الدولي: هل يعتمد نموذج أميركا اللاتينية أو النموذج “الشرق أوسطي”، الأول يبني معارضته للنظام الدولي على أساس رؤية محددة للمصلحة الوطنية وفي إطار ديناميكية داخلية قوية وديموقراطية وائتلافات عالمية متنامية، والثاني يقيم موالاته على أساس من الخواء السياسي، فالحيوية المسموح بها متاحة حصراً في حدود احتياجات النظام الدولي وبما يخدم أهدافه ولو كان ذلك على حساب الآمال الوطنية. التباين بين النموذجين معبّر، أحدهما يوفر استمرارية التغيير واتساعه، والآخر يدفع في اتجاه تأييد الجمود السياسي.
ثانياً: العلاقات العربية ـ العربية، هل يتبنّى نموذج التعاون في إطار ترتيبات مستقلة قائمة على المشاركة الواسعة والعميقة، وتبادل التأثير الإيجابي في السعي الى تحسين أوضاع المنطقة وإصلاح شؤونها وتحريرها من الهيمنة والتخلف والاستبداد، أو ينخرط في تناقضات جانبية تبيّت رغبة في استعمال قوة النظام الدولي لتغليب كفة على أخرى والتلاعب بقصد أو من غير قصد بحق شعوب المنطقة في تقرير مستقبلها بنفسها.
وثالثاً، الصراع مع العدو: هل ينزلق لبنان الى الحلول المنفردة حتى من دون معاهدات سلام رسمية، أو يعتمد ربطاً معتدلاً ومدروساً بالقضايا المشتركة من خلال رؤية محلية ترعى المصالح الوطنية.
لقد تمكّنت المقاومة من توفير عناصر الاستقرار المذكورة، ولولا اختلال التوازنات الوطنية والسلطوية مع القرار الدولي 1559 وما أعقبه من تطورات بلغت ذروتها مع تغلغل الأجنبي في عمق القرار اللبناني وحشد التأييد الغربي لمصلحة فئات وعلى حساب أخرى، لمّا جرؤ العدو على خرق الهدوء ولما سعى الى زعزعة الاستقرار. إن أحداث العامين الأخيرين مترابطة الى أبعد حد وينبغي تقديمها في سياق رواية واحدة متكاملة.
أوجدت المقاومة بحضورها القوي داخل المعادلة اللبنانية صيغة للممانعة تتناسب من جهة مع تعقيدات التركيبة الداخلية وقادرة من ناحية أخرى على إنتاج وطنية لبنانية متماسكة ومتفق عليها. لم يدرك كثيرون أن من إنجازاتها تأكيد الدور الوطني والداخلي في الصراع مع العدو والتزام معايير محلية تصب في نهاية المطاف في ترميم التوازنات الاقليمية المختلة. قامت هذه “اللبننة” على توازن دقيق وخلّاق بين خيارين متطرفين تجاه ذلك الصراع: الانخراط المفتوح فيه لأسباب أعلى من وطنية، والحياد المستحيل الذي يعني للبنان انحيازاً معاكساً وتورطاً في المعسكر المقابل. وكلا الخيارين يستبطن تهديداً لمقومات الصيغة اللبنانية الحرجة، وإعادة إنتاج للهوية الوطنية على غير ما أراده معظم اللبنانيين، ناهيك عن أن هوية هذا البلد الصغير من الحساسية بحيث لا يمكن استيعابها، وخصوصاً داخل المشروع الأميركي، من دون تصدّعات كبيرة فيها.
شكلت المقاومة أيضاً بأدائها قبل العدوان الأخير وبتصديها الباسل في أثنائه وبانتصارها المشهود بنتيجته، جاحزاً بين لبنان وبين التوترات المتصاعدة حوله المرتبطة أصلاً بدوران عجلة الحملة الأميركية، وحالت بالتالي دون أن يغدو ساحة صراع للآخرين على عكس ما يردده خصومها في هذا الشأن. يكفي أنها منعت ولا تزال استدراج لبنان الى لعبة الشرق الأوسط الجديد الذي تطمح إدارة بوش الى ان “ترسّم حدوده بالدم” ويُطبخ مستقبله على “نار حروب أهلية” خفيفة ومستعرة، باردة وساخنة. بكلمة أخرى تمثّل المقاومة النقيض الاستراتيجي والتاريخي للفوضى البنّاءة التي تعني الخروج الجماعي من الدولة الوطنية ومن الانتماء العربي والاسلامي الى صراعات لامتناهية بين الهويات الصغرى، فيما يجتذب خيار المقاومة والممانعة لبنان وغيره من دول المنطقة وشعوبها نحو مواضع الإجماع وينأى بها بالمحصلة عن الاكتواء بلهيب الخطة الأميركية للمنطقة والعالم.
ــ لا قيام للدولة أيضاً إلا من خلال انضمام لبنان إلى الصمود الشعبي المتصاعد والانبعاث الجديد للهوية العربية التي يرجى ان تكون حديثة وديموقراطية، وفي الوقت نفسه راسخة وممانعة.
فلئن تحرر هذا الصعود مما يشوبه من عوارض ناشئة من الاقتحام الغربي للمنطقة في أشد لحظاتها تأزماً، فستكون له اليد الطولى في بناء المستقبل، لكونه يقوم على تناقض فريد: مع الاحتلال الأميركي المحكوم بالتراجع ومع الاستبداد المدعوم من الخارج. إن انضمام لبنان بل ريادته هذه الممانعة المزدوجة ستعزز مكانته في مستقبل المنطقة وستضعه على لائحة الرابحين.
بناء الدولة يتطلب أيضاً إذاً التهيؤ لمرحلة ما بعد الانكفاء الاميركي عن المنطقة، وبعده لن يكون الشرق الأوسط هو نفسه، مع وجود كثرة من الخاسرين، وفي مقدم هؤلاء الملتحقون الجدد بركب المشروع الاميركي. ان هذا الالتحاق المتأخر بما فيه من رهانات وسياسات طائشة هو التجديف الخطير على معنى الدولة، وخصوصاً أن هناك من يريد للبنان أن يكون مختبر بناء الدولة بالشروط الجديدة للهيمنة: ديموقراطية من دون سيادة، وسلطة من دون دولة، ونظام يقوم على توازنات عابرة لا تتيح استقراراً مستداماً. بكلمة أخرى يريد دولاً رخوة عرضة لإعادة التشكيل الدائم كلما تغيرت الوقائع واستجدت أحداث.
إن أدهى المخاطر المحدقة بلبنان تتمثل في الطريق الخطر الذي استهله البعض منذ ما قبل القرار 1559، ربما منذ قمة الدول الثماني عام 2004، والذي يسير به خطوة خطوة للارتماء في أحضان المشروع الأميركي الآفل، والوقوع من ثمّ في مركز العاصفة الإقليمية. إن أي مشروع إنقاذي ينبغي أن يعمل بسرعة وبحزم على قطع ذلك المسار الذي يقود إلى تبديد الوطن تحت مسمى الدولة، أما هذه فلن تبنى إلا بتضافر أمرين: السيادة وهذا ما تكفله المقاومة وقد أصبحت البقعة الاستقلالية الوحيدة في هذا البلد، والديموقراطية الفعالة التي تقوم في هذه اللحظة التاريخية التأسيسية على ضبط محكم لأنواع التوازنات ولا تتنافى مع الاستقلال.
* نائب مدير المركز الاستشاري للبحوث والدراسات