منير شفيق *
مع إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الأول، بدأ الطعن الأميركي في الحاجة إلى هيئة الأمم المتحدة. ومع الحملة على العراق قبل أربع سنوات اتهمت الإدارة الأميركية من خلال عدد من منظّري المحافظين الجدد هيئة الأمم المتحدة بانتهاء الصلاحية. وكان جون بولتون المندوب الأميركي الحالي في الهيئة الدولية الأشد من بين من أقذعوا في هجائها والمطالبة بالخلاص منها، أو حصر مكاتبها في طبقة واحدة، ورأى أن ذلك كثير عليها.
طبعاً، كان مسلك أميركا إزاء قرارات هيئة الأمم مزدوج المعايير تاريخياً، فقد جمدت تطبيق كل القرارات والتوصيات المتعلقة بالقضية الفلسطينية بما في ذلك التي وقّعت عليها حرجاً أو ممالأة للعرب في الحرب الباردة. لكن في العهد الأول من ولاية الرئيس بوش وبالتحديد منذ بداية 2002 عومل مجلس الأمن معاملة مهينة. فإما الرضوخ للإملاءات الأميركية وإما إدارة الظهر له والتصرف منفردة مع من يلحق بها من حلفاء... وعاملت الحلف الأطلسي في ذلك الوقت بالطريقة نفسها، فأعلنت «استراتيجية الأمن القومي» في 22 أيلول/ سبتمبر 2002 أن أميركا لن تتقيد بأحلاف ثابتة وستبني «تحالف الراغبين» تبعاً لمقتضيات كل حالة (حرب ـ حملة ضغوط) من الحالات.
أما الدولة العبرية، فسجّلت تاريخاً متواصلاً غير متقطع في إدارة الظهر لقرارات هيئة الأمم المتحدة، بما في ذلك قرار التقسيم عام 1947، الرقم 181، أو تلبية الشروط التي وضعت عليها لقبول عضويتها في هيئة الأمم المتحدة. وقد لاقت في ذلك تغطية من الدول الغربية، ناهيك عن الضغط عليها لقبول القرار أو الالتزام بها أو تنفيذها.
لكن نتيجة الفشل الذي منيت به حكومتا أميركا وإسرائيل في فلسطين (الفشل في تصفية الانتفاضة والمقاومة وإخضاع الشعب الفلسطيني)، وبسبب الفشل الذريع في العراق بعد احتلاله، كما عدم انهيار «أحجار الدومينو» بعد عبرة اجتياح العراق وإسقاط النظام، ثم بسبب عزلة دولية بما في ذلك عن الرأي العام الغربي، أعادت إدارة بوش في عهدها الثاني مع بداية 2005، النظر في موضوع التحالفات والموقف من مجلس الأمن وحلف الناتو (الأطلسي). فبدأت مسيرة التصالح وعقد الصفقات الثنائية مع الدول الكبرى الأخرى، وخصوصاً فرنسا وألمانيا، كما روسيا والصين في خدمة الأولوية الاستراتيجية نفسها التي وضعتها.
وهي التي لخّصتها بإقامة نظام شرق أوسطي «كـــــبير» أو «واســـــع» أو «جديد». أما بنوده الأساسية فهي فرض الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، وضرب قوى المقاومة والممانعة (حتى أدناها) لإعادة رسم خرائط الدول العربية والإسلامية، وصولاً إلى خريطة الفسيفساء الشـــرق أوسطية، المؤلفة من أشباه دول وكيانات طائفية وإثنية وجهوية، وذلك لإحكام الهيمنة الإسرائيلية والأميركية المؤسرلة المصهينة عليها.
هدفت أميركا من التصالح والصفقات الثنائية بينها وبين كل من فرنسا وألمانيا (أوروبا عموماً) وروسيا والصين إلى استصدار قرارات من مجلس الأمن ضد فلسطين ولبنان وسوريا وإيران والسودان وقضايا أخرى تمسّ العرب والمسلمين.
كما هدفت إلى حجب اتخاذ قرارات أو تنفيذها أو قبول شكاوى تمس الدولة العبرية، وكان من بين ذلك تعطيل دور مجلس الأمن أربعة أسابيع لإعطاء الفرصة الكاملة للعدوان الإسرائيلي على لبنان، ولأمد أطول على قطاع غزة.
وبهذا تحوّل مجلس الأمن إلى غطاء لتحرير السياسات الأميركية المخالفة لميثاق هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي بسبب اتّسامها بعدم احترام مبدأي سيادة الدولة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، أو تكريس سياسة القوة في العلاقات الدولية، والسكوت عن الحروب العدوانية وحروب الإبادة واتفاقات جنيف الرابعة وصولاً إلى شرعنة التعذيب.
عندما يقبل مجلس الأمن لنفسه أن تصبح قراراته هي «الشرعية الدولية» ولو بمخالفة صريحة لميثاق هيئة الأمم وللقانون الدولي يفقد دوره وصفته الأممية ويدخل العالم والعلاقات الدولية في فوضى مدمرة لا حدود لها. وقد وصل هذا الاتجاه إلى أعلى تجلياته الخطرة، هذه الأيام، في السودان، حيث أخذ مجلس الأمن قراراً بإرسال قوات دولية إلى دارفور بالرغم من إرادة حكومتها الشرعية ورفضها لاستقبال تلك القوات، بل تهديدها بمقاومتها واعتبارها قوات احتلال. وهي بالفعل كذلك من زاوية التدخل في الشؤون الداخلية وعدم احترام سيادة الدولة. أما الأسوأ، فإن هدف هذا التدخل ليس إقرار السلم في دارفور، بل التمهيد لتجزئة السودان.
فالسودان إذا ما تحقق دخول القوات الدولية، ولم ينجح في مقاومتها سيتعرض إلى التجزئة (أربع أو خمس دويلات)، ما سيهدد الأمن القومي المصري والعربي والأفريقي.
هذا التطور من خلال مجلس الأمن يجب أن تنزع عنه «الشرعية الدولية». إذ من حق السودان أن يخوض مقاومة مشروعة، وبكل أشكالها، ضد هذا التدخل الذي يحمل أجندة أميركية ـ صهيونية ويشكل جزءاً من مشروع الشرق الأوسط الفسيفسائي حتى لو لم تقصد بعض الدول التي وافقت عليه في مجلس الأمن أن يحقق هذه الأهداف. فجون بولتون صريح جداً ولا يخفي أهدافه، وهو الذي يقف وراء قرارات إرسال القوات الدولية الى السودان، فإدارة المحافظين الجدد تعرف ماذا تريد.من هنا يجب على كل الحريصين على هيئة الأمم المتحدة والمتمسكين بميثاقها ومبادئها ودورها في تحقيق الأمن والسلام في العالم أن يرفعوا الصوت ضد كل قرار يصدر عن مجلس الأمن يتجاوز الميثاق والقانون الدولي ويتدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة. ومن ثم عليهم أن يدعموا حق الشعوب في المقاومة إذا تحوّل مجلس الأمن إلى غطاء للعدوان أو أرسل قوات دولية تقوم بمهمات قوات الاحتلال.
ولهذا، يجب أن يلقى السودان دعم الشعوب والرأي العام العالمي، وعلى الخصوص دعم الجامعة العربية إذا فرضت القوات الدولية، وجاءت إلى دارفور تمهيداً لتمزيق السودان شرّ تمزيق.
وأخيراً، لا يحق لأميركا بالذات أن تتحدث عن «شرعية هيئة الأمم» أو عدم مشروعية الخروج عليها، فيما هي وإسرائيل أول وآخر من فعل ذلك وأنكرا تلك الشرعية واعتبراها منتهية الصلاحية.
* كاتب ومفكر فلسطيني