عدنان حب الله *
ورد خبر منذ أيام في لقاء رامسفيلد مع نظيره الروسي، أن الولايات المتحدة تفكر باستخدام صواريخها الباليستية بعد أن تنزع منها القنبلة النووية لكي تستبدلها بمتفجرات عادية تكون أقل ضرراً من الإشعاع النووي.
وذلك، كما يقول رامسفيلد، يمثل تطوراً إضافياً في محاربة الإرهاب، فللوهلة الأولى ما علينا إلاّ أن نشكر جزيلاً للإدارة الأميركية هذه الرعاية الإنسانية والنيات الطيبة لكونها تفضلت علينا بقنابل ذكية مدمرة من دون إشعاع نووي.
هذا المنحى الفكري الجديد التدميري، لا بد من تقويمه لكي نضعه في الذهنية الأميركية التي تعامل ظاهرة عالمية للعنف الذي تتسع دائرته، فلا تطال الشرق الأوسط بل تتعداه إلى الدول الأوروبية والآسيوية.
حتى الآن نستطيع أن نستنتج في ضوء النتائج المترجمة على الأرض، أن محاربة الإرهاب غير الشرعي بالإرهاب الشرعي أو الدولي، لم تعطِ نتيجة في لجم رقعة العنف، بل زادته وطوّرته إلى درجة احتمال استعمال أسلحة الدمار الشامل التي إن تيسّرت في أيدي الإرهابيين يمكن عندئذٍ استعمالها.
فالإدارة الأميركية وعلى رأسها بوش ورامسفيلد والمحافظون الجدد دخلت وأدخلت العالم بأجمعه في دائرة عنف لا ينتج منها إلاّ الدمار والأعمال الإرهابية.
هل هذا هو الحل الوحيد؟ وهل هنالك حلول أخرى ممكن الاعتماد عليها قد أُبعدت من ذهنية من يعملون في هذا الملف؟
نحن الآن أمام مفترق طرق، لأن الفكر الإنساني بعد الحداثة يحمل في طياته أسباب دماره، فإما أن نتجه إلى معالجة الإرهاب في جذوره انطلاقاً من أسبابه ومسبباته وإما أن نعامله فعلاً يتطلب ردة فعل انطلاقاً من دفع عجلة العنف إلى درجة أعلى، وهذا حتماً سيؤدي إلى استعمال أسلحة الدمار الشامل حداً أقصى. فهل هذا هو المطلوب؟
العقل الإنساني الحكيم يرى في هذا المنحى دواعي تدميرية ذاتية تطاله والعدو معاً، إذاً السؤال: لماذا هذا الخيار إذا كنا على علم بنتائجه؟
المخيف في الموضوع أن الإنسان لأول مرة في تاريخ وجوده أصبح قادراً على تدمير نفسه بنفسه (أي البشرية) من دون انتظار يوم الحشر.
عندما تكلم فرويد عن نظريته الثنائية وهي أن الإنسان منذ أن دخل عالم الحضارة تتجاذبه قوتان: الأولى «إيروس: القوة الجامعة والموحدة بين أفراد البشر والداعية إلى الحب والإنجاب وحماية الإنسان من مخاطر الطبيعة والحفاظ على الحياة بشتى أوجهها سواء في النبات والحيوان والبيئة». والثانية «قوة الموت ثاناتوس: التي تدفعه إلى القتل والتدمير وتبديد معالم الحياة على وجه الأرض»، أي باختصار، إذا كانت المقولة السائدة تقول إن الإنسان من التراب وإلى التراب يعود، يكون هدف نزعة الموت إلغاء الحياة وإعادة كل ما هو يتحرك على وجه الأرض إلى جماد، كما لو كانت الحياة حدثاً أزعج ركود هذا الجماد، والموت هو السبيل الوحيد لكي يعيد الكون إلى ما هي عليه بقية كواكب الكون.
هذا الصراع بين إيروس وثاناتوس لا يزال قائماً ومستمراً في كل أنشطة الحياة، ولا يسلم فكر مهما بلغت درجته من الحكمة من التعرض لمثل هذا الصراع، وبصورة خاصة الآن الفكر السياسي الذي يتحكم بالعالم.
المشكلة الكبيرة أن قوة نزعة الموت ليست ظاهرة واعية كما يحصل في عمليات القتل الفردي والجماعي، إنما قد تتخفّى في أشكال مختلفة تفلت من خلالها من الرقابة الذاتية للأنا الأعلى. فقد تأخذ على سبيل المثال عمل الخير ويكون هدفها تدمير الآخر من طريق ارتهانه كي يصبح المستفيد الوحيد هو فاعل الخير نفسه، لأن الخير هنا يصب في تعزيز نرجسيته وحبه لذاته، وهذا في حد ذاته منحى تدميري.
مما لا شك فيه أن النرجسية الذاتية هي وجه من أوجه نزعة الموت. أما الذهاب إلى الآخر والاعتراف به وبما يتميز يُشكل وجهاً معاكساً يصب في دفع الحياة والحفاظ عليها.
فبوش ورامسفيلد وتشيني ومن جرّ جرهم عندما وقفوا أمام الإرهاب لكي يتوسلوا الطريقة الأمثل للقضاء عليه كان أمامهم احتمالان، إما التفكير في أسباب الإرهاب ومعالجتها، لأن مصادر الإرهاب قبل أن تترجم على الأرض كانت فكرية ويجب عندئذ دخول مصادر هذا الفكر ومعالجتها وتصحيحها بالطرق نفسها، لأن الإرهاب إن اصطدم بمقومات الحياة، كان النصر في النهاية للحياة نفسها، وهذا مبدأ وإلاّ كانت فنيت البشرية منذ أمدٍ بعيد.
والاحتمال الثاني هو معالجة الإرهاب بالطريقة التي أشرت إليها في خيار رامسفيلد: نزع السلاح النووي من الصواريخ في مرحلة أولى ثم إعادتها في مرحلة ثانية ليصبح الدمار شاملاً.
الفكرة الأولى تُخفي في طياتها الفكرة الثانية، لأن منطق نزعة الموت لا يمر إلاّ إذا أَوجد له الفكر سبلاً منطقية.
قوى الموت تعمل دائماً في الخفاء سواء على الصعيد الجسدي في حالة المرض قبل أن تظهر عوارضه ويصبح فناؤه لا عودة عنه، أو على صعيد الجماعة إذا ما هُيِّئت لها قيادات تحثها في هذا الاتجاه. وإجمالاً خطاب الموت شعبوي، يُعبئ الجماهير لأنه يفتح المجال أمام المكبوت المتواصل مع نزعة الموت. وخير مثال على ذلك الخطاب الجماهيري الذي أثار الشعب الألماني من طريق هتلر وأدى في النهاية إلى انتحاره وتدمير شعبه وبلده معاً.
لذلك نرى إدارة بوش على علمٍ أو على غير علمٍ منها، نراها تحاول استقطاب العالم حول فكرة الشر والخير لكي تبرر خدمة الشر باسم فعل الخير. فهل هي واعية لذلك بعدما شاهدنا ما حدث وما سيحدث في العراق؟ وإذا كان هدفها كما يُقال خيرات البلاد من البترول وغيرها، ما الفائدة إذا ما تبخر البترول تحت نار الحروب، ولم يعد من ناجٍ يستفيد من هذه الخيرات؟ أسئلة بديهية يكفي أي إنسان بسيط أن يطرحها لكي يرى التناقضات في السياسة الأميركية.
والسؤال هنا: لماذا تأخذ هذه الإدارة الأميركية منحى تصعيد الحرب بدلاً من اتجاه تحقيق السلام؟ وهل التفكير في هذا الاتجاه الأخير يصطدم بحقائق يصعب مواجهتها، أو أنها في حكم اللاوعي المكبوت لم يتطور الفكر السياسي بعد لاستخراج مدلولها؟
سوف لا أدخل في عمق النفس الفاعلة للوصول إلى قعرها. فهذه فكرة أظهر التحليل النفسي عدم جدواها، وهي من صنع الهوام المتخيل أكثر مما هي من الواقع الميداني العيادي. لاكان اختلف مع فرويد في تحديد اللاوعي، ففي نظره اللاوعي يكمن في أعماق النفس، أي كناية عن طبقات مستفة الواحدة فوق الأخرى، حيث يكمن المكبوت في الطبقة الأخيرة. لاكان خالفه واعتبر أن اللاوعي هو متاخم للوعي، أي إنه أمامنا ولكن يتحوّل النظر عنه أو الاعتراف به.
على الصعيد السياسي أو حقل النفس الجماعي، اللاوعي هو ما يحيد عنه الخطاب ويبني نفسه من طريق إلغائه. وهذه ظاهرة ندركها كل يوم عند سماع رجال السياسة يدلون بخطب تعتمد على تعزيز ما هو مكبوت أو نفيه.
إسرائيل بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، هي جوهر الموضوع. وفكرة الحفاظ عليها تتبناها كل إدارة مهما كان نوعها ــ ولكن لا أحد يجرؤ أن يتصدى لها نظراً لقوة نفوذها في المجتمع الأميركي. لذلك يتبين أن ما لا تستطيع الإدارة الأميركية أن تصححه في السياسة الإسرائيلية أصبح على مرّ الزمن من الثوابت التي يجب على كل إدارة أن تتجنب الخوض فيها، والانتقال بدلاً من ذلك إلى الطرف الآخر المتضرر فتُمارس عليه حق العنف الذي لا تستطيع ممارسته في حق إسرائيل. وفي جوهر هذه القضية نجد مسألتين تريد إسرائيل حلّهما من طريق الآخر: المسألة الأولى هي أن أرض الميعاد من حق إسرائيل كما تقول التوراة، لأنها تمثل شعب الله المختار. ولكن المشكلة أنها تلقي على الآخرين مسؤولية حلّها وإثبات صحتها. فكيف يكون هناك شعب مختار ومخيّر من دون آخرين للاعتراف بذلك. فلو كان شعب إسرائيل لوحده لا يعد هنالك حاجة للخيار، فحاجتها إلى الشعوب الأخرى هي في الوقت نفسه حاجتها إلى هذا التمييز سواء كان ذلك للشعب الإسرائيلي بالنسبة إلى علاقته مع العرب أو لبقية الشعب اليهودي في أوروبا والعالم.
والمسألة الثانية هي أن شعب إسرائيل يعاني مشكلة هوية ــ فكيف يمكن القفز فوق التاريخ طوال ألفي سنة لجمع أفراد متحدرين من أصل يهودي علماً أن كل واحد منهم أصبح بحكم التاريخ والثقافة ابن البلاد التي وُلد فيها ونشأ منذ آلاف السنين ــ وهذا التفاوت والاختلاف الثقافي المتعدد في المجتمع الإسرائيلي يؤدي إلى نتيجة ثابتة: إذا كان العرب يجدون هويتهم في السلام، فالمجتمع الإسرائيلي لا يجد هويته إلا في الحرب، فلو تركوا على حالهم لتفكك الشعب الإسرائيلي، من هنا الحاجة إلى الساحة العربية لإذكاء الحروب.
من هذا المنطلق نجد أن الإدارة الأميركية إن سارت في اتجاه أهواء إسرائيل لا تخدمها على المدى البعيد لأن القوة غير دائمة ولا تكفي لكي تضمن بقاء الشعوب على أرض مغتصبة. والتاريخ شاهد على ذلك، إذ بعدما تضاءلت مقاومة الصليبيين على أرض فلسطين رحلوا من دون عودة بعد مئة وخمسين سنة. وكذلك حال العرب في إسبانيا.
فالأميركيون يضللون الإسرائيليين أكثر مما يدفعونهم إلى طريق الصواب بتغريرهم بأن القوة تفعل كل شيء. فحتى الزعماء العرب الذين رضخوا لطلب الأميركيين وضغطهم يضمرون العداء في الخفاء وشعوبهم تحتقن غضباً وحقداً على الأميركيين والإسرائيليين.
فهذا الاعتزاز بالقوة والخلط بينها وبين الحق والحقيقة هو الذي يُسيّر السياسة الأميركية ويُضللها عن ذاتها وعن الأسس التي بناها الآباء الاثنا عشر لتحقيق أميركا الحقيقية والإنسانية. هل يمكن القول أخيراً إن هذا المكبوت الذي أصبح في طيات الزمن هو الذي يحاول الأميركيون تجنبه ووعيه إرضاءً لما يسمى أمن إسرائيل؟ وهل العنف هنا يصبح الجواب الوحيد في آليةٍ لا يبررها أيُ منطق عقلاني؟
فالإدارة الأميركية أمام خيارين: إمّا أن تستمر في المنطق العنفي الذي يتحكم بها الآن ويحوّل العالم إلى بؤرة متفجرة باستمرار. ومع مرّ الزمن سيتأكد لها أن المقاومة التي بزغت في الجنوب ستعمم على شعوب أخرى، وعندئذٍ ستجد نفسها أمام حائط مسدود.
وإمّا أن تعترف بجوهر المشكلة فتنتقل من التوراتي إلى واقع حقوق البشر.
* رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية