عمر كوش *
أفضى انتفاء السياسة في بلداننا العربية إلى أزمات وانهيارات واحتقانات عديدة، لأنه حين تُقتل السياسة يغيب الوسيط الذي يمكن بواسطته حلّ مختلف الخلافات، وتظهر مختلف العصبيات الدينية والعرقية والقبلية، ويفسح المجال واسعاً أمام التطرف وأعمال العنف، وينجرف العامة من الناس إلى أتون صراع لم يريدوه أو يخططوا له.
وأسهم غياب الديموقراطية في البلدان العربية في تفاقم مشكلة الأقليات القومية والدينية، وخصوصاً بعد تبني النظم الحاكمة إيديولوجيات لا تحترم الآخر ولا تقرّ بالتنوع والاختلاف، ولا بشرعة حقوق الإنسان ومختلف الحريات العامة والفردية. ومن الطبيعي أنه عندما تتعرض جماعة بشرية للاضطهاد والقمع والتهميش، من سلطة طاغية، ترتد هذه الجماعة إلى ذاتها، وتبحث فيها عن خصوصياتها وعن الفروق التي تميّزها من سواها من الجماعات والتكوينات التي تعيش معها أو تتساكن معها في الأرض والوطن نفسيهما، ثم تُصعّد الخصوصيات الدينية والمذهبية والإثنية بشكل ميتافيزقي، مبالغ فيه، يتناسب طرداً أو أكثر مع درجة الاضطهاد أو التهميش الممارس في حقها. وستجد من قوى الخارج من يغذي هذه الخصوصيات والتباينات، ويوظفها استناداً إلى الذاكرة الجمعية التاريخية والثقافية، ويصورها سبباً لكل اضطهاد بغية تشييد جدار عزل وحماية، وتشكيل حالة انتمائية خاصة تنهض على جملة الفروق، الحقيقية والوهمية والمصطنعة، لتغدو التمايزات مكوناً أساسياً لتكوين هوية الجماعة المضطهدة. وهذا الأمر يحدث بالنسبة إلى أية جماعة تلجأ أو ترتد إلى خصوصياتها وانتماءاتها الإثنية أو الدينية أو ما قبل المدنية.
ومنذ بداية ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، بدأت الأنظمة العربية تواجه مشاكل عديدة، نظراً إلى فشلها الذريع في الحفاظ على الاستقلال الوطني، وفي مواجهة التهديدات الخارجية، وفشلها في تحقيق التنمية، وعجزها عن تحقيق الديموقراطية والمشاركة السياسية وسواهما، بينما نجحت هذه الأنظمة في إدارة الأزمات، وفي إخفاء الغليان الداخلي وتأجيل الانفجار، بسبب التفوق الهائل المتراكم في عمل أجهزة استخباراتها العسكرية والأمنية والسياسية. وبدلاً من البدء بالإصلاح والتغيير، لجأت الأنظمة الحاكمة إلى إغلاق الطرق أمام أية محاولة جدية للتغيير، مع أن المطلوب هو تغيير يفضي إلى تجسيد قيم المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسلم لتسود في المجتمع، وتتحكم في مناحيه، وفق آليات معينة ومحددة تماماً، تعمل على عودة الناس إلى الممارسة السياسية، كي يسهموا في إيجاد الحلول المناسبة، وخصوصاً بعدما جرت عمليات مقصودة لتعطيل الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي.
إن السياسة كما يقول «ماكس فيبر» أشبه بعملية ثقب ألواح المعادن القاسية، لذلك تتطلب الصبر والهدوء، وتُلزم السياسي إعلان التزام طويل. وفي حالة بلداننا العربية، تقتضي الأولوية إعادة السياسة إلى المجتمع بما يضمن ويمكّن الجمهور العام وقواه الحيّة من دخول الحوار وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، بصبر ورويّة، والابتعاد من الشعارات الطنّانة، كي نقترب من جوهر السياسة القائم على التداول والخطاب الواقعي والمنطقي والاستعداد للتفاعل والتبادل والتسويات. لكن المشكلة تكمن في نتيجة وبؤس سياسة الأنظمة الحاكمة التي لا تجيد سوى التحدث بلغة الشعارات الفارغة، بعيداً من العقلانية السياسية، والتي عملت على تنمية الانتماءات ما قبل الوطنية، كالطائفية والعشائرية والإثنية، واستبعدت الخيار الديموقراطي الذي يستدعي التداول السلمي للسلطة السياسية، حتى أصبح هذا الخيار مستحيلاً في ظل سيطرة فرد واحد وحاشيته على مقدرات السلطة والموارد الوطنية والثقافة والإعلام.
لن ينفعنا الاستمرار في إنتاج البكائيات والحسرات على حالات الاحتقان المجتمعي وبداية تصدع التركيبات الوطنية، وما آلت إليه بعض الاتجاهات الدينية والعرقية من ارتكاس نحو التعصب بعد سنوات طوال من التعايش والتسامح. ولن يجدي نفعاً مجرد المطالبة برفع الظلم والإجحاف الذي طاول الحقوق الدينية والمدنية والسياسية لبعض الجماعات، بل ينبغي التنبه إلى المآل والمصير في حال استمرار تفاقم الأوضاع الراهنة. وينبغي كذلك التنبه إلى ما يخطط لمجتمعاتنا وما ينتظرها من مآسٍ إن لم نبدأ بتغيير واقع الحال عبر الشروع في التغيير الديموقراطي التدريجي، لتمكين مجتمعاتنا من التصدي لجميع الأخطار المحدقة بها، وهنا تكتسب وجاهتها الدعوة إلى الشروع في حوار مجتمعي موسع، يضم كل القوى والجماعات، حول قيم المواطنة والعيش المشترك، فقوة الداخل هي الأساس في التصدي للتحديات والمخاطر.
إن المطلوب هو إعادة النظر في جوهر العلاقة بين السلطات السياسية الحاكمة ومجموع مواطنيها، لأن معظم الأنظمة العربية قمعية، وحاولت على الدوام القضاء على دور مؤسسات المجتمع المدني واستقلاليتها في كل بلد عربي، وبالتالي انتفت السياسة، وفقدت الأحزاب والحركات السياسية دورها، بوصفها أدوات للتعبير المنظم عن آراء جماعات المواطنين وقناعاتها ومصالحها، وبوصفها كذلك إطارات لبلورة هويات حديثة تنتظم في فضاء رابطة المواطنة من دون أن تنفيها. وعملت السلطات العربية على إلغاء التنظيمات المدنية وتهميشها، كالنقابات العمالية والاتحادات الصناعية والاقتصادية والمنتديات الفكرية والثقافية. وفي ظل شمولية السلطة ووجودها في كل مكان لم تتمكن هذه التنظيمات من توعية المواطنين وجعلهم يسهمون في تخطي حواجز الولاءات ما قبل المدنية المفرِّقة بينهم، وفي ترسيخ مضامين وقيم عملية لرابطة المواطنة في تفاصيل حياتهم اليومية. ونتج من السيطرة السلطوية انتفاء المساحة السياسية والمدنية الوسيطة الفاصلة بين النظام وجملة المواطنين، وبالتالي لم يجد المواطن العربي في النظم السلطوية العربية سوى اللجوء إلى الهويات الضيقة والولاءات الأولية، دينية كانت أو عرقية أو قبلية، كي توفر له الحماية والملاذ. وأدى الفشل في إشادة مفهوم المواطنة، بوصفها جملة من حقوق البشر وواجباتهم، إلى بروز المؤسسات الدينية أو التنظيمات العرقية مداخلَ لتأطير حركة الناس في المجال العام والدفاع عن مصالحهم، الأمر الذي زاد من الانفصال الحياتي بين أبناء المجتمع الواحد على أساس الانتماء الديني أو العرقي أو كليهما معاً. وكلنا يعلم أن مشاعر الفتنة وآليات الفعل الإقصائي تستعر في لحظات الأزمة والانهيار. وأحس أفراد المجتمع في بعض بلداننا العربية بأزمة الثقة بالنظم التسلطية التي احتكرت الدولة، وصاروا مدركين حالة عجز الدولة عن إلهامهم وتوجيههم، ولم يجدوا غير محاولة إعادة ترتيب حياتهم من دونها. وعليه بدأت بدائل جديدة في الظهور لتسد حاجات الناس، فتحولت الكنيسة والمسجد في أكثر من بلد عربي، من مجرد دور للعبادة تشهد ممارسة الطقوس الدينية، إلى ما يشبه مؤسسات تقدم خدمات دنيوية متعددة، بل باتت المساجد والكنائس بديلاً من المستشفيات والعيادات الصحية، وأمكنة لتعليم الدروس الخصوصية ولإقامة المآتم وتقبُّل العزاء وللاحتفال بعقود القران وطقوس الزواج المحدودة، إضافة إلى القيام بدور اجتماعي في حياة أعضائهما من خلال تنظيم رحلات أو معسكرات رياضية، أو حلقات دعوة وتوعية دينية. وتمّ ذلك على حساب تهميش دور الأحزاب السياسية وضموره، وضعف دور المنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني.
*كاتب سوري