شادي أبو جودة *
في قراءة تاريخية ومتابعة سياسية لوضع المسيحيين في لبنان منذ «قيام» الجمهورية الثانية بعد الطائف حتى أيامنا هذه، يبدو جلياً أن التباين في المواقف والاتجاهات على الساحة المسيحية (وعلى الصعيد التمثيلي حصراً) يعود الى نهجين ومدرستين.
مدرسة جاهرت في صلب خطابها وايديولوجيتها السياسية بـ «أمن المجتمع المسيحي» وسبل حمايته والمحافظة على بقائه وتحصينه، فأظهرت (في الماضي) الكثير من التشــــــدد حيال هذه الشعـــــارات حتى أضحى انعزال المسيحيين الحل الوحيد لديهم على المستوى النظري!
ومدرسة حديثة الصنع متطورة الفكر متقدمة الطرح نادت بالتلاحم بين جميع اللبنانيين والتوحد لمصلحة لبنان وصيانة سيادته، معلنة أن المصلحة المسيحية لا تقوم ولا تصان الا ضمن معادلة لبنانية وطنية تحفظ جميع الطوائف.
في جولة أولى، كان على المسيحيين الاختيار بين الانضمام الى «جمهورية الطائف» والقبول بتعديلاتها إن على مستوى رئاسة الجمهورية او على كل المستويات مع «ضمانات» سورية ــ أميركية ــ سعودية، وبين رفض أي حل سياسي للبنان لا يُبحث على الأراضي اللبنانية ولا يحترم الإرادة اللبنانية.
جاء الخيار الشعبي ليعترض على إملاءات الطائف بينما كانت القوى الاقليمية والعالمية تبحث عن غطاء سياسي وكنسي لتمريره، فقدم لها الأول وأخذت بركة الثاني!
تشكّلت عندها نقطة التحول في الواقع المسيحي الذي خسر الحرب عسكرياً ولم يربحها سياسياً بـــل قدّم العديد من التنازلات على أيدي الموقّـــعين عـــــلى الوثـــــيقــــة السعودية.
هذه المفارقة بين الخطاب والممارسة إن على صعيد القرار أو على صعيد الفاعلية، أفرزت واقعاً آخر يختلف كلياً عما ضجّت به الكلمات الرنانة والوعود «الدائمة التأجيل» لفريق الطائف المسيحي. فدفع المسيحيون (وما زالوا) ثمن توقيع بعض قيادتهم على الطائف من خلال إقصائهم عن التعيينات وإبعادهم عن الإدارات ومصادرة حقوقهم، مما أعدم التوازن في الدولة وقضى على مبدأ المشاركة الفعالة، بالإضافة الى نفي قادتهم وسجنهم.
استمر الإحباط المسيحي مع مجيء إميل لحود رئيساً عندما أضرمت النار بينه وبين رئيس الحكومة الذي اتهمه بعرقلة المشاريع وبدأ حملته عليه، فأضحى المسيحيون يتلقّفون الانعكاسات السلبية للمناكفات بين الرجلين مع دفعهم المستمر لفاتورة الحرب اللبنانية!
عام 2005 وبعد الانسحاب السوري من لبنان وعودة العماد عون من المنفى وخروج جعجع من السجن، التقط الشارع المسيحي بعض أنفاسه على رغم عدم تلاقي القيادتين انتخابياً.
فأمل البعض خيراً بفعل انضمام فئة من المسيحيين الى السطلة.
أما اليوم بعـــــــد مرور سنــــــة وشهر على تأليف حكــــــــــومة الاكــــــثرية، فيتطلع المسيـــــحي الى دوره وحضــــــوره وفــــــاعـــــليـــته في الــــــــدولة، فـــــــلا يــــــرى ســـــــوى وزراء مســـــيحييــــــن «يطالبون» الدولة علناً ومن على شاشات التلفزة بتحسين الوضع المسيحي، ملقين المسؤولية على رئيس الجمهورية الذي مددوا له مرة ثانية عندما لم يتفقوا على البديل!
مرة جديدة يساهم هذا الفريق المسيحي بتظهير صورة الشريك الضعيف في الحكم الذي لا يجد سبيلاً إلى استرجاع الدور المسيحي الريادي المنفتح، هذه الصورة التي يطلبها دوماً الفريق المستأثر بالسلطة ليحكم قبضته على كل مفاصل الدولة.
أما الأسواء، الجديد القديم، فـــــيــــكــــــمن في تصاريح ولّى عنها الزمن وأثـــــبتت الايام عقمها والتجارب فشلها، تصاريح وشعارات عادت تدّعي صفة «الدرع المسيحي الفعال»!
علّ هذا الاستعراض التاريخي للواقع المسيحي، يرسّخ قناعة ثابتة عند المسيحيين تتلاقى وثقافة المدرسة الثانية التي تنبع من عمق إيمانهم وتجاربهم وتقول بالمصلحة الوطنية العليا التي تحفظ المصلحة المسيحية وتحميها، وتجنّبها الخوض في مغامرات مشبوهة لا علاقة لها بالمصلحة المسيحية.
*كاتب لبناني