ساسين عساف*
أحدث انتصار الصمود انكشافاً حقيقياً لضعف الوحدة الوطنية في لبنان.. هذا الانكشاف عبّر عن نفسه بالآتي:
وحدة الرؤيا السياسية للأوضاع في لبنان والمنطقة ولموقع لبنان منها ودوره فيها ولموقفه من أطراف الصراع المعنيين بها، هي «وحدة قيد الدرس». اللبس فيها هذه المرة غير ناتج من الشرخ التقليدي في البنيان الوطني المستند نظرياً الى أفهوم الثنائية التكوينية الدينية والحضارية التي راجت ثقافتها التقسيمية منذ انشاء دولة لبنان الكبير والتي لم تتمكن من اعادة تأكيد نفسها بعد الثاني عشر من آذار كما كانت تفعل في معظم الأزمات والحروب قبله.
الوحدة الوطنية باتت تحدياً «مطروحاً» على اللبنانيين لا واقعاً قائماً، إنها «وحدة قيد الدرس» أو الاحتمال.. لماذا؟
1 ــ لأن الموقف الايجابي من المقاومة والموقف السلبي من الحرب الأميركية/الاسرائيلية على لبنان كوّنتهما ارادة وطنية جمعت أناساً مقاومين من كل الطوائف والفئات.. وهذا ما يظهر ان «الشرخ الثنائي» الطائفي قابل للمعالجة وان الاقتتال الطائفي ليس قدراً مفروضاً على اللبنانيين وان وحدة الشعب إمكان مفتوح إزاء القضايا المصيرية وخصوصاً متى كانت في حجم مقاومة العدوان أو التحرير.
2 ــ لأن «انتصار الصمود» ضخّ، بمنسوب مرتفع، في البنيان الوطني دماً نقياً يجعله غير قابل بعد اليوم للاصابة بداء «فقدان الممانعة» للمشروع الاميركي/الاسرائيلي، داء الأنظمة والحكومات وبعض النخب المطحونة فكرياً ونفسياً وسياسياً ومصلحياً بآلة الخوف من اسرائيل والمنجذبة بشراهة المراهقين سياسياً وثقافياً الى «ديموقراطية الادارة الاميركية»!
3 ــ لأن «انتصار الصمود» جعل اللبنانيين يعيدون التفكير في وظيفة كيانهم السياسي (دولتهم) ومسوّغات نشوئه واستمراره. فهو لم يعد في نظر البعض التماساً «تاريخياً» لحق البعض الآخر في الامتياز والخصوصية..
وهو لم يعد في نظر البعض كما هو في نظر البعض الآخر وجه مؤامرة غربية... وهو لم يعد في نظر البعض كما هو في نظر البعض الآخر رأس حربة في مقاومة الكيان الصهيوني.. هذا الانقسام حول وظيفة لبنان/الدولة قد يجد له تسوية ما تبقيه مترجّحاً بين الوحدة الوهمية والوحدة الحقيقية ومرتهناً لموازين القوى الاقليمية والدولية... هذه التسوية المرتقبة التي قد يعدّ لها عبر العودة الى طاولة الحوار ستبقي الكيان اللبناني مشروعاً ملتبساً ينتظر تحولاً ما يأتيه من خارج حدوده ومفتوحاً على الفتن والحروب المفتوحة..
4 ــ لأن «انتصار الصمود» ابتلعه التدويل وأذابه في عيون الكثيرين وحوّله الى انكسار للمقاومة واعد بتصفيتها في القريب العاجل ما حدا هؤلاء إلى عدم قراءة الموقف الحقيقي للسيد حسن نصر الله في دعوته الى تأليف حكومة وحدة وطنية. فأفهوم الوحدة لدى هؤلاء يرتكز على الغلبة التي يظنون ان التدويل وفّرها لهم غداة انتشار قوات اليونيفيل في الجنوب وغير الجنوب وبعد الكشف على مواقع الجيش اللبناني على طول الحدود مع سوريا وبعد تقديم «المساعدة التقنية والفنية» في المطار وفي المرافئ..
لم يدرك هؤلاء أو هم لا يريدون أن يدركوا وإن أدركوا فهم لا يريدون أن يصدقوا ان كل ذلك هو لحماية أمن الكيان الصهيوني كما أوضحت مزهوّةً، المستشارة الألمانية. فأمن لبنان ووحدته الوطنية لا يدخلان في دائرة اهتمامات أصحاب القرارات الدولية بشأنه.. التدويل له عنوان واحد:
الأمن لإسرائيل والفوضى إن لم نقل الفتنة للبنان.
5 ــ لأن القوى السياسية التي تزعم انها انتصرت بالتدويل أعادت إحياء فكرة سادت في ثقافة بعض الجماعات منذ نشوء الكيان اللبناني تقول: ان لبنان/الدولة هو صنيعة الأجنبي.. يظلّله الغرب ويمدّه بأسباب البقاء! ويحميه من شراهة «إخوانه السوريين» ومن ايديولوجيا عروبة التذويب والانصهار القومي!.. لم نسمع مرة من هؤلاء كلاماً يقول ان دول الغرب تحمي لبنان من العدوان الاسرائيلي المستمر عليه ومن الايديولوجيا الصهيونية القائمة على الابادة والترحيل والاحتلال أو الاستيطان ونهب الثروة لا بل يذهب البعض منهم الى القول ان الادارة الاميركية هي التي أوقفت الحرب على لبنان في الخامس عشر من آب!... إن اسرائيل تنهب مياه الوزاني، فأين هو الردع الدولي لهذه السرقة الموصوفة؟!.. إن اسرائيل تنتهك يومياً القرار الدولي الرقم 1701، فأين هو الردع الدولي من هذه الانتهاكات؟!.. الجواب واضح: أمن الكيان الصهيوني هو الهدف من كل الاجراءات التي تتخذها القوات الدولية (الأطلسية بحقيقتها والغرض من تكوينها ونشرها) في الجنوب وغير الجنوب.. أما السؤال فهو: هل سكوت «السياديين» الجدد منهم والقدامى عن ذلك ما زالت تحركه رغبات كامنة وطافرة أحياناً في أن تواجه قوات الأطلسي حزب الله وتمنع «اعتداءاته» (وإن أرادوا التلطيف قالوا استفزازاته أو حركشاته) على اسرائيل وتنزع سلاح المقاومة وتصفّي جيوبها جنوبي الليطاني وشماليه وتراقب حدود لبنان براً وجواً وبحراً بهدف القضاء نهائياً على إمكان مدّها بالمزيد من الأسلحة؟! ما هذا الأساس الواهي الذي يدعو هؤلاء الآخرين الى إثبات «لبنانيتهم» عليه؟! إثبات اللبنانية على قاعدة الاذعان المطلق لموجبات تنفيذ القرار 1701، بالقراءة وبالشروط الاسرائيلية تحديداً، بات في ذهن هؤلاء شرطاً أولياً لتوفير عناصر الوحدة الوطنية.
6 ــ لأن القوى السياسية التي تزعم انها انتصرت بالتدويل تدّعي أنها أسهمت في انتصار الصمود وانها هي التي سعت الى إصدار القرار 1701 الذي قرأت فيه ما لم يقرأه سواها، قرأت فيه نقاطها السبع! وعلى هذا الأساس قدّم هؤلاء أنفسهم للناس كاملي الأوصاف والأهلية الوطنية التي لا يدانيهم فيها أحد وراحوا ينادون الآخرين الى خلع أوصافهم السورية والايرانية والعودة الى معاهد التأهل الوطني! فأي وحدة وطنية هي هذه المبنية على ادعاء الانتماء الوطني الكلي والولاء الوطني المطلق والهوية الوطنية التامة، أما الآخرون فانتماؤهم جزئي وولاؤهم نسبي وهويتهم ناقصة؟! أنا اللبنانية وأنا السيادة وأنا القرار الحر، أما أنت فسوري/ايراني مسود ومصادر ومستتبع تعلن الحرب على اسرائيل من أجل إنقاذ سوريا من محكمة دولية ومن أجل إنقاذ ايران من ملف نووي! هذه المقولة المضللة هيمنت على عقول هؤلاء وتصرفاتهم وخطابهم السياسي فدفعتهم الى معاملة الآخرين من مواقع الحق في الاتهام وفي المحاكمة السياسية والوطنية ومن مواقع التشاوف المفرغ من أي مضمون وطني حقيقي والمضخم لحجم الذات والمقزم لحجم الآخر حتى حدود الحلم بسوقه الى المحاسبة وربما السجن! هذا الخلل في النظرة الى الذات وتبرئتها والنظرة الى الآخر وتجريمه لا يصلح قاعدة سليمة لبناء وحدة وطنية ثابتة وصحيحة.. خطأ هؤلاء المزروعين في الشاشات الصغيرة هو تعميم ثقافة التشكيك بالآخر وإبرازه مسخّراً لمصالح غير لبنانية.. واذا كان في تعليم هؤلاء شيء من الحقيقة فجزء كبير منها يصحّ فيهم، إن لم يكن أكثر فبالتساوي.. ان الوحدة الوطنية لا تستقيم لها حال ما دامت فئة سياسية ما تدّعي لنفسها العصمة من تسخير الذات خدمة لمصالح أجنبية وتحسب ما عداها ساقطاً «أبدياً» في التجربة!.. ان أساس بناء الوحدة الوطنية تصويب النظرة الى الذات والى الآخر ومراجعة الذات ومحاسبتها قبل دعوة الآخر إليهما.. العصمة لا امتياز فيها لأحد على أحد.. وإن كان العكس صحيحاً فهي ليست امتيازهم في أي حال..
7 ــ لأن «انتصار الصمود» ولّد خطاباً متعالياً على العصبيات قد يدفع «الخطاب الأكثري» الى التراجع.. وبتراجعه إن حصل قد تتقلص جميع المفردات التي كانت تخفي في مطاويها الحق الحصري في ملكية السلطة والدولة والوطن وقد يخفض وتائره ونبراته العالية والمتعالية في آن.. وهذا ما قد يخفف من حدة المواجهة بين «مستأثرين بالسلطة» الى حد الادعاء بأن الوحدة الوطنية مجسّدة بائتلافهم الحاكم، و«ساعين إليها» متهمين بأنهم يعدّون لانقلاب واسع فيها يعيد البلاد الى زمن الوصاية السورية موسوماً بصبغة إيرانية فاقعة!
8 ــ لأن «انتصار الصمود» أنقذ اللبنانيين من فتنة طائفية أو مذهبية كانت لتعيد الى أذهان البعض الصيغة الصهيونية التي وجد فيها هؤلاء في زمن مضى حلاً تاريخياً لأزماتنا الوطنية يقضي بإقامة كياناتهم الذاتية.. هذا الانتصار أحدث قواعد جديدة للصراع السياسي الداخلي غير طائفية ما يساعد على إضعاف فكرة الفيدرالية والكانتونات، فتأييد قوى سياسية مسيحية تحديداً للمقاومة واعتبارها انتصاره انتصاراً لها جنّب المسيحيين الذهاب الى مغامرات يبدو أن البعض ما زال مشدوداً إليها.. قمة الغباء السياسي التماس الدعم من إدارة بوش ويمينه المتصهين وتأييد مشروعها التفكيكي في المنطقة وإعادة تركيبها فيدرالياً حماية لأمن إسرائيل ونهباً للثروة.. من فوائد انتصار المقاومة الذي ارتاحت إليه قوى سياسية مسيحية واسعة أنه وضع هذه القوى في مواجهة العدو التاريخي لأمتها، وفي ذلك تجربة جديدة تعيد المسيحيين الى موقعهم الطبيعي. مواجهة العدو والشعور بالانتصار عليه بانتصار المقاومة يشكلان بداية صلح تاريخي بين اللبنانيين. ومن يجد نفسه خارج هذه المواجهة وهذا الشعور فهو ما زال في وارد الفتنة..
لهذه الأسباب مجتمعة قلنا إن الوحدة الوطنية في لبنان ما زالت «وحدة قيد الدرس» أو وحدة محتملة قابلة للتشكل، وهي تنتظر لحظة تاريخية مؤاتية لتصفية المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي من أذهان البعض وتثبيت اللبنانية (هوية لبنان السياسية) بقيمها الجديدة التي أكسبها إياها فعل المقاومة لهذا المشروع.. اللبنانية، بقيمها الجديدة، هي معقد الإجماع الوطني العامل الحاسم في مستقبل الوحدة الوطنية. كلما اتسع الإجماع الوطني على هوية لبنان السياسية الممانعة للمشروع الأميركي ــ الإسرائيلي تعمّقت الوحدة بين اللبنانيين، وكلما ضاق ازداد الانقسام بينهم عمقاً واتساعاً. إن لبنانية جديدة ولدت من رحم المقاومة و«انتصار الصمود»، ولها أن تتحوّل الى ثقافة شاملة كي تشكل الضمان الأكيد لوحدة وطنية ثابتة. قياس الوحدة الوطنية صار محكوماً بمدى شيوع ثقافة «اللبنانية الجديدة» الآيلة حتماً الى إقامة حكم لبناني وطني ونظام سياسي مدني ودولة مقاومة، وحينئذ يسهل التفاهم على حلول أوليّة وجذرية لمتفرعات الأزمة الوطنية المتمادية منذ نشوء الدولة اللبنانية حتى اليوم.. والعبرة هي في إعادة التفكير بهدوء في معاني هذا الانتصار التاريخي الذي وضع اللبنانيين أمام تحولات سياسية كبيرة: في زمن الهزيمة تسود روح الشقاق والفتنة وفي زمن الانتصار تسود روح الوحدة والوفاق.. فهل يعي البعض خطورة العمل على تحويل الانتصار الى هزيمة؟
* كاتب ومفكر لبناني