أنطون الخوري حرب
أن يعتذر وليد جنبلاط إلى الشعب اللبناني عن خطأ ارتكبه خلال مسيرته السياسية، لهو أمر مشجع، لكونه يدفع أي سياسي آخر إلى التردد والتفكير ملياً قبل الإقدام على ارتكاب إساءة بحق شعبه.
لكن ما أقدم جنبلاط على ارتكابه يتطلب أكثر بكثير من الاعتذار. فهو لم يعتذر لأنه كذب على شعبه في أمر من الأمور، أو لأنه غطّى مخالفة ارتكبها هو أو أحد محازبيه، إذ إن الاعتذار يجب أن يكون بحجم الخطأ المرتكب ومقروناً بالعودة عنه وبتحمل عاقبته.
فكم حري بجنبلاط أن يعتذر، وماذا ينفع مجرد الاعتذار الكلامي المتلفز الذي يريد صاحبه من ورائه تظهير صورة إيجابية عن نفسه أمام مجتمع اعتاد ممارسة غسل الذاكرة وعدم الاتعاظ والاستفادة من التجارب السيئة.
يحق لنا نحن، أبناء جيل الحرب اللبنانية الذين تلقينا كل مساوئ الارتكابات السياسية، وانطبعت في أذهاننا وذاكرتنا كل صورها البشعة، وطبعت حياتنا بمسحة غبن وغـــــضب ترافق وجدانــــــنا إلى الابد، أن نســــأل وليد جنبلاط:
هل يقتنع المواطن اللبناني ويقبل بمجرد الاعتذار عن تسوية أجراها مع من عدَّهم قتلة أبيه في مقابل دعم هؤلاء له في مواجهة أبناء بلده. مستمراً بالاستقواء بهذا الخارج «الشقيق» من أجل الانتصار على أخصامه السياسيين في الداخل طوال ثلاثة عقود من الزمن، عانى خلالها المجتمع من أبشع فصول القتل والتدمير والتهجير والهجرة والفساد والنهب الرسمي المنظم المنظم؟
ماذا يقول جنبلاط لـ 153 قتيلاً كان معظمهم من مسيحييي الحزب التقدمي الاشتراكي، وقد سقطوا في منطقة الجبل انتقاماً لمقتل والده؟
وماذا يقول جنبلاط لـ 2400 قتيل سقطوا خلال حرب الجبل في المعارك المتنقلة من عاليه إلى الشوف وإقليم الخروب؟
ماذا يقول جنبلاط لـ 443 قتيلاً سقطوا في الدامور على يد التحالف الفلسطيني الاشتراكي؟
ماذا يقول جنبلاط للجيش اللبناني الذي تعرض للانقسام والتدمير في الشحار الغربي، والذي يحاول جنبلاط اليوم أن يسيطر على قراره؟
ماذا يقول جنبلاط للكنائس التي هدمت ونزعت أجراسها ألـ83 لتعرض في مراكز الحزب التقدمي الاشتراكي؟
ماذا يقول جنبلاط لشهداء سوق الغرب الذين سقطوا دفاعاً عن مواقعهم أمام الهجوم الجنبلاطي السوري لإسقاط قصر بعبدا في العام 1989؟
ماذا يقول جنبلاط لمهجري الجبل عن مئات ملايين الدولارات المسروقة من صندوق وزارة المهجرين؟
ماذا يقول جنبلاط للرأي العام عن فصل المسارين السوري واللبناني في عملية التفاوض مع إسرائيل بعدما خاض معظم معاركه مع أخصام سوريا تحت شعار وحدة المسار والمصير؟
ماذا يقول جنبلاط عن طلبه من القوات الأميركية احتلال سوريا بعد أن كان يتمنى مقتل وولفوفيتز في العراق؟
ماذا يقول جنبلاط عن الحريات والديموقراطية بعدما كان هو وأعوانه يصفون تحركات الحركات الطالبية المسيحية بحملة الكلاب المسعورة على الوجود الأخوي السوري في لبنان؟
ماذا يقول جنبلاط عن العهد السوري في لبنان وهو الشريك الدائم والأساسي في معارك سوريا وحكوماتها وبرلماناتها وسياساتها لثلاثة عقود خلت، جالساً في حضنها، متمتعاً بخيرات الخدام وكنعان؟
في إحدى المقابلات الصحفية التي كنت أجريها أنا وزميلي في جريدة النهار طوني أبي نجم مع وليد جنبلاط في منزله في محلة كليمنصو، وبعد انتهاء التسجيل تطرق الحديث إلى الرئيس الراحل بشير الجميل، فعلق جنبلاط بالقول إن أعظم ما حدث لمصلحة لبنان هو اغتيال بشير الجميل، كما نعت الشهيد جبران تويني بالحمار. ثم أخبرنا بأن حرب الجبل حُضِّر لها بينه وبين السوريين، في حين أدت إسرائيل دور التحريض المتبادل لتكتمل مستلزمات التقاتل، وهو اليوم يمجد شهادة تويني ويحالف زوجة بشير الجميل في الانتخابات ويتباكى أمام ماضي حرب الجبل.
قد يكون اعتزال جنبلاط للسياسة وحل حزبه هو الثمن الرخيص لتاريخه في ارتكاب الخطايا بحق شبعه، والحل البديل لقانون العفو المسخ الذي أنتجه أمراء الحرب اللبنانية لغسل ماضيهم والاستمرار في الهيمنة على مقدرات الدولة والمجتمع، ومن الواضح أن التقيّة التي مارسها جنبلاط طوال ثلاثين سنة أصبحت عبئاً أمام استحقاق الانتقام لمقتل والده، ولو طال هذا الاستحقاق في حلول أوانه لما كان قد تغير شيء في سورنة حياته السياسية.
لكن من تتـــــحكــم في سلــــــوكه ذهـــــنية الثأر يصلح لأن يكون زعيم قبيلة، لا رجــــل دولة مسؤولاً عن سلامة المجتمع.
وإذا كــــــان من انـــــــتــــــقام للمـــاضي، فــإن إراحة المجــــــــتـــمع من سياسة وليد جنبلاط هي الانتقام الأمثـــــل لمـــــــقــــتـــــل والده.