ليلى نقولا الرحباني *
بالإذن من دولة الرئيس السنيورة، وبعض السياسيين اللبنانيين في الأكثرية الحاكمة الذين يعتبرون أن لبنان خسر الحرب على الرغم من أن الاسرائيليين وعلى ألسنة قادتهم قد اعترفوا بهزيمتهم في لبنان، وبدأوا يبحثون الأسباب التي أدت إليها. ويمكن تأكيد النصر اللبناني بحسب المعادلة الشائعة التي يستخدمها هنري كيسنجر كثيراً، «يكفي المقاومين ألا يخسروا حتى يربحوا».. وبما أننا لا نـــــنظر الى الأمـــــور من منــــــظار سياسي ضيق، ولسنا مستعدين لإعطاء اسرائيل نصراً ليس لها ولا تشعر به، سنحاول تبيان الأسباب التي سمحت للبنان بالانتصار على الجيش الذي لا يُقهر ووراءه دعم أميركي ودولي كبيران.
يجمع الباحثون على وجوب توافر عوامل خارجية تترافق مع عوامل داخلية، تؤدي الى نجاح سياسة ما أو الى الانتصار في الحرب. وهنا يطرح تساؤل مهم، كيف نجح لبنان في رد العدوان الاسرائيلي في ظل نظام دولي يتميز بالهيمنة الاميركية وبسيطرة واضحة على المؤسسات الدولية، والمفارقة هنا أن الرأي العام العالمي لم يتحرك ضد العدوان كما حصل إبان الاجتياح الاميركي للعراق.
إذاً، بانتفاء العوامل الخارجية المساعدة، لا بد من أن هناك عوامل داخلية ذات فعالية عالية ساهمت في هذا الانتصار التاريخي للبنان، فما هي؟
إذا كان من الصـــعوبة بمكان استخراج كل الأسباب الكامــــــنة وراء نجاح المقاومة في لبنان، فقـــــــد يمكن التعرّف ببــــعضها عـــــــلى الأقل أو أكثرها، وخـــــــصوصاً أنها تشترك عبرها مع أكثر حركات المـــــــقاومة أو «حروب العصابات» المعروضة في التاريخ المعاصر، ويعتبر توافرها ضرورياً لنجاح العمل المقاوم.
المشروعية
قاتل المقاومون في الجنوب دفاعاً عن استقلالهم وسيادتهم وسلامة أراضي لبنان. والدفاع عن النفس ضد اعتداء أو احتلال خارجي هو حق من الحقوق البديهية والأساسية التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة في مادته (51) وكرّستها القوانين والأعراف الدولية التي أكدت أيضاً حق الشعوب في المقاومة وتحرير الأرض.
ولما لم تكن الدولة اللبنانية تملك الوسائل الكافية لرد العدوان من جيش نظامي قوي وأسلحة متطورة، فقد تولّى رجال المقاومة هذه المهمة، بالاضافة الى أن هذه المعركة اعتُبرت دفاعاً عن قضية وجود الشيعة في لبنان ككل، لذلك قاوم «المجاهدون» في معركة مصيرية يتحدد فيها تاريخ «الأمة» بأكملها، وأي خسارة على الجبهة كانت تعني انتفاء «الوجود السياسي» في الداخل القائم على التوازنات الطائفية كما حصل مع المسيحيين طوال 15 سنة.
الدعم الشعبي
ينطلق هذا الدعم من الجمهور الجنوبي ذي الغالبية الشيعية الذي يتعاطف مع هذه المقاومة ويمجّدها انطلاقاً من معايير ايديولوجية ودينية وحياتية.
فـــــــقد أتت هـــــذه المقاومة في أعقاب مرحلة من الفوضى المسلّحة إبان الحرب الأهلية والوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وممارسات اسرائيلية لا تطاق، وأرست نوعاً جديداً ومختلفاً عن التصرفات الميليشياوية التي كانت سائدة، فمعظم رجالها من الشباب الذين لا يتقاضـــون رواتب ولا يفرضون «خوّات» ولا يعتدون على أملاك الغير ولا يشهرون سلاحاً في وجه مواطن ولا يطلقون رصاصاً في حي سكني، حزناً أو ابتهاجاً، ولا يمشون فرحاً بأزيائهم المرقطة وأسلحتهم الظاهرة.
التماسك الاجتماعي
المقاومة بلا شك هي شعب وثقافة قبل أن تكون عسكراً. لقد وعى الشعب اللبناني لأول مرة في تاريخه أن الحرب واستعمال القوة المسلحة للدفاع عن الوطن ليسا شأناً يخص العسكر فقط، إنما على الجميع أن يشاركوا في الحرب لمحاولة كسبها. فقد أطل العماد ميشال عون معلناً موقفاً تاريخياً ينسجم مع مواقفه السابقة طوال سبع عشرة سنة، إذ كيف يُعقل أن يُنفى من لبنان لمواقفه المتشددة لأجل سيادة لبنان واستقلاله وتحريره من الوصاية السورية ولا يكون سبّاقاً في الوقوف بوجه العدوان الاسرائيلي وانــــتهاكه المستمر للسيادة اللبنانية؟ وقد ساهمت وثيقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله في خلق جو من الطمأنينة لدى النازحين وأدخلت السلام الى قلوبهم، فأقبلوا الى المناطق المسيحية وعاشوا مع إخوة لهم في المواطنية، شعر على أثرها المقاومون على الجبهة بالاطمئنان على عوائلهم فتفرّغوا للمقاومة العسكرية ورد العدوان.
بالاضافة الى أن التيار بامتداده الشعبي الواسع على الأراضي اللبنانية وبسبب تمثيله 75% من المسيحيين، أعطى المقاومة بعداً وطنياً، وهو ما حاول مَن في السلطة حرمانها منه، ناهيك عن محاولة عزلها في الطائفة الشيعية.
شخصية السيد حسن نصر الله
إن الحديث عن السياسة من دون تأكيد أهمية الانسان يشكل خطأً فادحاً في تحليلنا السياسي. فلا يمكن إنكار أهمية شخصية صاحب القرار في رسم السياسة ووضع الخطط السياســـــية والعــــــسكرية، فــــــأمام الظروف نفسها تختلف الأحكام الصادرة عن أصحاب السلطة والقرار باختلاف شخصياتهم وتقديرهم للأمور. ومما لا شك فيه أن السيد حسن نصر الله يمتلك كل مقومات القائد المثالي، التي عدّدها الجنرال ديغول على الشكل التالي:
ــ أن يعتنق مبدأً ويكون مستعداً للدفاع عنه حتى الموت.
ــ أن يتمتع بصفات خاصة لا يفهمها الآخرون، بل تحيّرهم وتحركهم وتثير اهتمامهم.
ــ أن يكون ذا هيبة (كاريزما)
ــ أن يتفهّم رسالته ويرتبط بمثاليات سامية.
ــ أن تكون له القدرة على التحكم والتأثير في الآخرين.
هذه الصفات جعلت المقاومين والشعب الجنوبي على الرغم مما أصابه يقول جملته الشهيرة: «فدا السيد حسن».
التنظيم الجيد
لا يمكن إغفال ما يؤديه التنظيم العسكري والهيكلية التنظيمية من دور في نجاح المقاومة.
ويـــــؤكّد «كلاوزفــــــيتــــز» أن «حرب العـــــــصابات الضعيفة عسكرياً تحتاج إلى أن تكون قوية على المستوى التنظيمي، فالتنظيم المحكم هو العامل الذي أتاح للمقاومة أن تعوّض التفوّق المادي الكاسح الذي يتمتع به الخصم».
السرية، الانضباط وعدم الاختراق
نشأت المقاومة في لبنان تنظيماً سرياً لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح الجنوب ووصل إلى قلب العاصمة بيروت عام 1982، وكان يُطلق عليها آنذاك اسم «جبهة المقاومة اللبنانية» التي ضمت الى جانب الحزب الشيوعي، القوميين وغيرهم. ثم ما لبثت أن اختفت تقريباً بعدما فرض السوريون هيمنتهم على كل الأراضي اللبنانية بعد 1990 لتنفرد «المقاومة الإسلامية» منذ ذلك الوقت بالصراع العسكري ضد اسرائيل في الشريط المحتل، وتُتهم في كثير من الأحيان بأنها «تحتكر المقاومة» لأغراض سياسية. وعلى الرغم من المساوىء العديدة التي نتجت من هذا الاحتكار إلا أنه وفّر لحزب الله نوعاً من السرية التامة وعدم الاختراق المهمين جداً لأي عمل مقاوم.
استخدام أساليب قتالية متطورة
استخدمت المـــــــقـــــاومة الأساليب المعروفة في حروب العصـــــــابات، أي المجموعات الصغيرة التي تشن هجــــــــومات مفاجئة على دوريات العدو وتحصــــــــيناته، أو تعـــــــمل عـــــلى زرع الألغام والكمائن على طرق مواصلاته، واستعملوا الصــــــــواريخ المضـــــادة للدروع التي دمّرت هـــــــيبة الدبـــــابة الاسرائـــــــيلية الأكثر تطوراً «ميركافا-الجيل الرابع»، وأسقطوا معادلة قديمة مفادها «مزيد من الجنود يساوي مزيداً من القوة».
تطوير قدرات استخبارية عالية
نجحت المقاومة في تطوير قدرات استخبارية عالية مكّنتها من رصد تحركات الجنود الاسرائيليين، وقد أكد التقرير الأولي الذي أعده فريق لجنة التحقيق الاسرائيلية ان قيادة «حزب الله» نجحت في اختراق نظام الاتصالات اللاسلكية الذي كان يستخدمه الجيش الاسرائيلي على جبهة القتال كما تمكنت بفضل التقنيات المتطورة للغاية من رصد المكالمات الهاتفية بين هيئة أركان جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان» والمخابرات الخارجية والموساد وشبكة العملاء الناشطة في مناطق مختلفة من لبنان..
وأشار التقرير الذي رُفع الى رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود اولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس الى أن وحدة الهندسة التابعة لحزب الله تمكنت من اختراق اللاسلكي التابع لقيادة المنطقة الشمالية واستمعت الى الأحاديث التي جرت بين الجنود والضباط في أرض المعركة.
الحرب النفسية والدعاية السياسية
قام الحزب بتعبئة إعلامية واسعة موجهة إلى الرأي العام اللبناني بمختلف اتجاهاته من خلال قناة «المنار» التلفزيونية وشبكة الإنترنت، ليبث عبرها أخبار العمليات وخطب المسؤولين، والتوجيه السياسي إلى أنحاء العالم كافة. واعتمد أحدث الأساليب النفسية والمعنوية باللغتين العربية والعبرية في عملية تأثير واسعة على الرأي العام المدني والعسكري في اسرائيل، ونجح في اختراق النسيج المجتمعي والسياسي الاسرائيلي بحيث أظهرت استطلاعات الرأي أن الاسرائيليين يصدّقون السيد حسن نصر الله أكثر من قادتهم العسكريين والسياسيين.
مواجهة مع العدو وتهدئة في الداخل
تجنّب حزب الله المواجهة مع الحكومة اللبنانية فوافق على القرارات التي أصدرتها، معتمداً استراتيجيا العنف على جبهة المواجهة مع العدو، والتهدئة على الجبهة الداخلية. وقد ظهر هذا الأمر جلياً عندما تنصّلت الحكومة من مسؤولية عملية أسر الجنديين على الرغم من إقرارها بدعم المقاومة وحقها في تحرير الأسرى والأرض، وذلك في بيانها الوزاري الذي نالت على أساسه ثقة المجلس النيابي. وقد تجنّب بسبب هذه الاستراتيجيا التورط في معارك جانبية تضعفه في الصفوف الخلفية.
أسباب أخرى
لنجاح أي حرب يجب توافر القدرة على استغلال الأرض والجغرافيا، وحرب العصابات على الأخص تتطلّب قدرة على الإخفاء والاختباء وعلى الاتصال والتوزّع. في لبنان تميّزت المقاومة العسكرية عموماً بالسرية التي وفّرت لها الفاعلية، وبالصدقيّة والجدية في بياناتها، وبالرضى الشعبي والتكامل والتناغم بين المقاومين والسكان المحليين، وبمعرفة نقطة ضعف العدو: الخسائر البشرية، بالاضافة الى قدرتها على ضرب العمق الاسرائيلي وتهديدها الدائم لسكان شمال اسرائيل والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي ألحقتها باقتصادهم، على رغم أنه قد لا تصح مــــــقارنــــــتها بخسائر الاقتصاد اللبناني.
وساعدت الطبيعة الجغرافية للبنان رجال المقاومة فوفّرت لهم الملاذ والملجأ الآمن. هذا بالاضافة الى عقيدة عسكرية بنيت على أسس دينية جهادية، أهم مرتكزاتها أمران:
ـ النصر أو الشهادة
ـ إسرائيل عدو أبدي قتاله شرف وواجب.
بناءً على كل ما تقدم، يتجلى لنا بشكل واضح أن المقاومة اللبنانية ارتكزت على الانسان بكل معنى الكلمة. فالمقاوم واجه الآليات العسكرية الاسرائيلية الفائقة التطور وعطّلها، والشعب اللبناني أظهر قدرة هائلة على الصمود والتوحّد بوجه الأخطار الخارجية، كما في أعظم الديموقراطيات وأعرقها، بصرف النظر عن بعض المواقف السياسية والاعلامية الشاذة التي بقيت معزولة.
للأسف، إن الانجازات العسكرية والشعبية التي تحققت على الأرض لم تترافق مع إنجاز دبلوماسي وسياسي مشهود، لو تيّسر له أن يُبصر النور لاستطاع لبنان تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ولتمّ تبادل الأسرى وزالت الأسباب التي تشرّع لحزب الله حمل السلاح، وانطلق لـــــــــبنان في مســــــيرة بناء الدولة القوية العادلة والقادرة على حفظ سيادتها.
* باحثة في القضايا الاستراتيجية