علي م. الحسيني *
•أثناء زيارته لبلده الأم، ألقى البابا بنديكت السادس عشر ــ الكاردينال راتزينغر قبل تسنّمه سدة البابوية ــ خطاباً في جامعة رغنسبرغ تحدث فيه عن الخلافات التاريخية والفلسفية بين الاسلام والمسيحية وعن العلاقة بين الايمان والعنف، «واقتبس» من حوار دار في القرن الرابع عشر بين امبراطور بيزنطي ومثقف فارسي ما يلي: ما هو الجديد في دين محمد؟ فقط أشياء شريرة وغير انسانية مثل نشر الدين بحدّ السيف.
•أثارت هذه الخطب ردود فعل فورية وتلقائية ـ كالعادة ـ في العالمين العربي والاسلامي وقفز الخطباء الى منابرهم مطالبين بالاعتذار، إذ أصبح الاعتذار لشدة شيوعه جرعة لإزالة الاحتقان ومرهماً لتهدئة الخواطر، فيما هو ليس موقفاً بل ربما كان مناورة لتثبيت المواقف من دون إثارة المشاعر. وقوبلت ردات الفعل هذه بردات فعل لا تقل تلقائية، انبرت للدفاع عن التصريحات، حيث رأى أحد المطارنة في مقابلة مع محطة اذاعية بتاريخ 16/9/2006 ان طلب الاعتذار هو اهانة كبيرة للبابا، وعلى من طلبه واجب طلب عدم المؤاخذة لعدم قراءة النص جيداً، وأعربت مرجعية دينية مهمة في عظتها بتاريخ 17/9 عن الأسف لما أُثير عن كلام البابا الذي لم يبدِ رأيه في الاسلام، وهو يحترمه وينبذ الدوافع الدينية للعنف. أما في الصحافة العالمية، فنكتفي بالاشارة المقتضبة الى ما ورد في جريدة نيويورك تايمز، وخاصة في جريدة لاستامبا الايطالية من «أن هناك تذمراً داخل الادارة البابوية من جراء تصريحات الحبر الأعظم، وما كان هذا ليحدث مع البابا السابق».
•وما دام باب الجدل والاشكالية قد انفتح على مصراعيه، ورغبةً في وضع الأمور في نصابها الصحيح، فإننا نرى ان تُعرف أولاً مواقف البابا وأفكاره الحقيقية من القضايا المثارة، على ان يُعمد في ضوئها الى مواجهة ايجابية غير متشنجة للفكر بالفكر، مع الحرص الثابت والشفاف على ايجاد أرضية حقيقية، صادقة ومتينة، لحوار الثقافات والأديان، هذا الحوار الذي يتضرر كثيراً من ردات الفعل الفورية استنكاراً أو تأييداً للمواقف المعلنة.
•في محاولة سريعة لمعرفة أفكار البابا ومواقفه، نورد في ما يلي ملخصاً شديد الاختصار، مقتبساً من دون زيادة عن مجلات وصحف أوروبية أهمها مجلة الإكسبرس الفرنسية التي أجرت مقابلة معه في آذار 1997، ثم نشرت دراسة وافية عن أفكاره ومواقفه بعد انتخابه لسدة البابوية في النصف الثاني من نيسان 2005 تحت عنوان «العقيدة الراتزينغرية».
1 ــ الإيمان: «ان إرادة الخلاص الإلهية قد تجلّت وتحققت، للمرة الوحيدة والنهائية، في سر التجسد والموت والقيامة لابن الرب، وكل التجارب الإلهية الأخرى لا يمكنها ان تكون ذات مغزى وقيمة إلا من خلال تجربة المسيح، ولا يمكن هذه التجارب ان تعتبر موازية أو مكمّلة لهذه التجربة».
2 ــ العلمنة: «نحن مع العلمنة لكننا ضد العلمانية الايديولوجية التي تحاول عزل الحقيقة المسيحية عن الحياة العامة، لأن مثل هذا العزل خطر أكيد على الوجه الروحي والأخلاقي والانساني لأوروبا. والعلمانية الشديدة هي تحريض يؤدي الى تنامي الأصولية».
3 ــ المسكونية: درجت العادة على استعمال عبارة «الكنائس الشقيقة» بالإشارة الى الأرثوذكسية والبروتستانتية غير ان نظرية البابا ترى «ان الكنيسة العالمية الوحيدة والمقدسة ـ الكاثوليكية الرسولية، ليست أختاً، بل هي أم جميع الكنائس الخاصة، وعلى الرغم من الانقسام بين المسيحيين، فإن كنيسة المسيح يستمر وجودها الكلي في الكنيسة الكاثوليكية وحدها، ومفتاح هذا الاستمرار هو التتابع الرسولي، والكنائس الناشئة عن الإصلاح البروتستانتي ليست كنائس بالمعنى الحقيقي، وهذا التتابع لم ينقطع في الارثوذكسية التي هي حقيقة كنيسة خاصة». «إن أتباع بقية الاديان هم في موقع شديد العوز والحاجة بالمقارنة بأتباع الكنيسة الذين يتمتعون بكلية وسائل الخلاص».
4 ــ تركيا والاتحاد الأوروبي: «ان دخول تركيا الاتحاد سيكون خطيراً. وتركيا التي تعتبر نفسها دولة علمانية لكن على أساس الاسلام يمكن ان تكون مع البلدان العربية قارة ذات ثقافة مشتركة، بمواجهة ثقافة أخرى لها هويتها الخاصة المرتكزة على القيم الانسانية الكبرى».
5 ــ الحوار بين الأديان: «انه ضروري في عالم يتجه نحو التوحد لكن الخطر هو في قيام حوار سطحي، لأن النسبية التي تسيطر على الافكار تنمّي نوعاً من الفوضى الأخلاقية والفكرية تقود بالنهاية الى عدم القبول بحقيقة واحدة. ان تأكيد الآخر لحقيقة ينمّ عن عدم تسامح والحوار الحقيقي ليس حركة في الفراغ بل يهدف الى بحث مشترك عن الحقيقة، ويجب ألا يتخلى المسيحي عن معرفته للحقيقة المتجسدة في المسيح ابن الرب الوحيد».
6 ــ الوظائف الأساسية للبابوية:
•السهر على وحدة الكاثوليك ضمن الكنيسة وفي العالم.
•متابعة الحوار بين المسيحية وبقية الأديان والبابا هو مهندس المسكونية العالمي لأن لديه سلطة عالمية لا تتوافر لغيره من المسؤولين أو من المنظمات الدينية.
•ان تكون البابوية صوت الأخلاق والدين في عالم يسيطر عليه العلم والتكنولوجيا.
7 ــ المخاطر التي تهدد الكنيسة:
في مداخلة ألقاها الكاردينال راتزينغر أثناء رئاسته خلوة الكرادلة المجتمعين في نيسان 2005 مباشرةً قبل انتخابه حبراً أعظم، حدد المخاطر التي تهدد الكنيسة على الشكل التالي:
•الاسلام الذي تخطى عدد أتباعه (1,2 مليار) الكاثوليكية (1,08 مليار)، وذلك لأول مرة في تاريخها.
•المبشرون الانجيليون الذين يتقاطرون على قارات الجنوب (العالم الثالث) حاملين على ظهورهم أكياساً ملأى بالدولارات.
•المبادرات اللاهوتية «التلفيقية» ضمن الكنيسة الكاثوليكية، التي ترى ان بعض الثقافات غير الكاثوليكية تحتوي على أجزاء من الحقيقة الدينية، أو ان بعض الانبياء، كما المسيح، جاؤوا لخلاص الانسانية. ويشار إلى انه بسبب هذه المبادرات التلفيقية جُمّد التبشير اليسوعي وكذلك إلقاء الحُرم على المفكر السريلانكي «tissa balasuriya».
•في الخلاصة
•ان تصريحات قداسة البابا تندرج في سياق منطقي لمواقفه وأفكاره الأساسية.
•ان ردود الأفعال المتفاجئة هي في معظمها وليدة الجهل بهذه المواقف، وبالتالي الاعتذار لا يبدل شيئاً في الواقع.
•ان الردود المستهجنة لردات الفعل هي إمعان في التمويه أو في مجافاة الواقع. وفي رأينا ان الخلاف اللاهوتي والديني أمر طبيعي ينبغي علينا قبوله وفهمه في إطار من الاحترام لعقائد الآخرين، لئلا يتحول الاختلاف الذي هو سنّة الطبيعة الى خلاف يطيح القيم الانسانية الكبرى. ويبقى ان الضحية الكبرى لهذه المواقف هي بلا شك صدقية الحوار بين الثقافات والأديان، الذي لن يفضي الى اي مكان اذا كانت منطلقاته «احتكار الحقيقة المطلقة والاندراج في خانة الأصوليات السائدة» كما قال الأب اليسوعي والاستاذ الجامعي الفرنسي «paul valadier» أو «اذا كانت تفتح جروحاً عميقة» كما قال رئيس الفيديرالية البروتستانتية في فرنسا jean Arnold de clermont.
*باحث لبناني