ايلي نجم *
يبدو أنّ «زعيمة العالم الحرّ» نجحت، في ما مضى، في إبادة مئات الآلاف من بني البشر أكثر بكثير ممّا فعلته الأنظمة البوليسيّة والاستبداديّة الجائرة مجتمعةً، وهي التي تخطّط اليوم لمضاعفة قدراتها المذهلة على القتل.
تمثّل هذا الأمر، ولمّا يزل، في أنّ الجيوش الأميركيّة تقتل أكثر و«أفضل»، فتلحق بـ«العدوّ» خسائر جسيمة وموجعة تفوق تلك التي تُمنى هي بها. ولعلّ ذلك يعود إلى السعي إلى تطوير قدراتها على القتل عن بُعد، بحيث تستطيع هذه الجيوش ضرب منشآت العدوّ وبناه التحتيّة من مسافة بعيدة، وتبقى خارج المجال الذي يستطيع فيه الوصول إليها والنيل منها انتقاماً.
فقد أوعزت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) إلى «وكالة المشاريع الخاصّة بالأبحاث الدفاعيّة المتقدّمة» DARPA مباشرة تصوّر الترسانة الأميركيّة المقبلة (ابتداءً من عام 2010) والإعداد لها بهدف الوصول في أقلّ من ساعتين من الوقت إلى أهداف بعيدة في العالم، وضربها انطلاقاً من القارّة الأميركيّة، ومن دون التماس الإذن باستخدام الأجواء الإقليميّة أو القواعد العسكريّة للدول التي تجاور البلد المستهدَف. وقد دُعيَ هذا المشروع «فَلكون».
يقوم هذا المشروع على صناعة طائرة من دون طيّار Drone وعلى توجيهها توجيهاً دقيقاً ومحكماً، علماً أنّها ستكون قادرة على نقل صـــــــواريخ تبلغ حمولتها ستّة أطنان إلى مسافة 14500 كـــــــلم وأكثر، وبسرعة تفوق سرعة الصوت من خمس إلى عشر مرّات. وستنــــــطلق من مطار عسكريّ عاديّ، وتعود وتستخدم مرّة أو أكثر في مهمّات مماثلة.
وليس بعيداً عن هذا الأمر، يرى البعض أنّه كانت للغرب الغلبة في المجال العسكريّ، ابتداءً من اليونان ومروراً بالرومان في العصور القديمة، وبالإنكليز في العصور الحديثة، ووصولاً إلى الأميركيّين اليوم. وقد أحصى فيكتور دايفيس هانسون (في كتاب موثّق يحمل العنوان الآتي: «المذابح والثقافة، المعارك التي صنعت الغرب») تسع معارك مفصليّة في تاريخ الغرب، ابتداءً بالمعركة التي وقعت في جزيرة سالامين الإغريقيّة في شهر أيلول من عام 480 قبل الميلاد، والتي واجه فيها الإغريق الفرس وتغلّبوا عليهم، ووصولاً إلى الهجوم الذي شنّته القوّات الأميركيّة إبّان حرب فيتنام عام 1968 في اليوم الأوّل من بدء السنة القمريّة عند الفيتناميّين المعروف بعيد «تيت». أمّا فولفغانغ زوفزكي، فقد عرض (في كتاب يحمل العنوان الآتي: «عصر الرعب، جنون قاتل وإرهاب وحرب») صنوف الاضطهاد والإرهاب والغزو والمجازر التي ارتُكبت سرّاً وعلانيةً في الأزمنة المعاصرة، ورأى أنّ تحويل الناس العاديّين والسويّين إلى قتلة ومجرمين وسفّاحين لا يقتضي كثيراً من الوقت والعناء.
على صعيد آخر، لعلّ أخطر ما يجري في أميركا اليوم هو المكافأة التي يقدّمها الشعب الأميركيّ المحكوم إلى الحاكم. ويتمثّل هذا الأمر بقيام المحكومين (المسيّرين بوساطة وسائل الإعلام الخاضعة لسلطة المال ولقبضة جماعات الضغط الصهيونيّة المتحالفة مع الأصوليّين البروتستانت «المنهجيّين» ومع «المحافظين الجدد»...) بتأييد سياسات الحاكم الإمبرياليّة بحجّة اضطلاعه بحماية الناس من عدوّ وهميّ، هو في الواقع صنيعة أجهزة الاستخبارات التي تعمل في الخفاء بأمرٍ صريحٍ من الحاكم عينه أو بإيحاءٍ من الطغمة الماليّة أو الصناعيّة أو العسكريّة... التي حملته في الأساس إلى السلطة. وهو الأمر الذي يُبطِل قدرة المحكومين على النقد والتمييز والمفاضلة والاختيار، وبالتالي على الانتخاب والمحاسبة.
من جهة أخرى، يبدو أنّ الضوابط التي أقامها النظام القانونيّ السياسيّ الأميركيّ في الداخل قد مكّنت، إلى حدٍّ ما، المواطن الأميركيّ المحكوم من الحدّ من سلطة الحاكم، وحالت دون تسلّطه، حين قضت (هذه الضوابط) بلزوم تقييد أيّة سلطة يمارسها هذا الحاكم بسلطة مقابلة ومضادّة يمارسها القضاء أو السلطة الرابعة أو الرأي العام بعامّة... فلماذا لا يبادر الأميركيّون إلى التشاور مع مجموعة الدول في العالم، قبل اتّخاذ القرارات السياسيّة والعسكريّة المصيريّة التي تصيب ملايين الناس في العالم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟ أوَتراهم يرغبون، من خلال مشروع «فَلكون» وسواه، في التفلّت من القيود الجغرافيّة والمادّية ليطلقوا العنان لمطامعهم ومطامحهم، فيبسطوا سيطرتهم وسلطانهم على العالم أجمع، بما فيه أوروبا، «الصديق اللدود»؟
*مفكر لبناني