د. داود خير الله *
عندما دخل الفلسطينيون في نفق مسدود اثر فشل مفاوضات باراك ــ عرفات برعاية الرئيس الأميركي كلينتون وقامت انتفاضة الأقصى، تعالت أصوات عربية تلوم التطرف الفلسطيني على ردود الفعل الوحشية لإسرائيل مما شجع هذه الأخيرة على الامعان في الفتك والظلم، وقد دفع ذلك بالوجدان الشعبي الفلسطيني للالتفاف حول حماس حتى أوصلها الى سدّة الحكم.
وعندما قامت الولايات المتحدة بحربها المجرّدة من أية شرعية أو مبرر خلقي أو قانوني على العراق تنادى أعضاء الكورس نفسه الى تبرير الحرب وجعل صدّام حسين المسؤول عنها والمبرر الوحيد لحصولها. لا بل قد قام بعض الحكام العرب بتقديم التسهيلات المادية والعسكرية لتدمير العراق، فقامت مقاومة دموية للاحتلال تضمّ اطرافا على مستويات مختلفة من الشرعية في سلوكها وما زالت آلة القتل والدمار تمعن في العراق قتلا وتدميرا.
والآن وقد انطلقت آلة الحرب الاسرائيلية تمعن في لبنان قتلا وتدميرا اثر أسر جنديين اسرائيليين بغية مقايضتهما بمعتقلين لبنانيين في السجون الاسرائيلية منذ عقود، دون وجه حقّ ودون أن يتحرّك الرأي العام العربي أو الدولي لفك أسرهم، ارتفعت أصوات تحمّل قائد حزب الله السيد حسن نصر الله مسؤولية ما تقوم به آلة التدمير والموت الاسرائيلية من قتل ودمار وتتهمه بأنه يرغب في جرّ المنطقة الى حروب اقليمية ويقضي على استقرارها.
هناك من يعتبر، وربما أصاب، أن قيادة حزب الله بأسرها الجنديين الاسرائيليين إنما رغبت كذلك في مناصرة الفلسطينيين المحاصرين في غزّة والذين يعانون من فتك آلة الدمار الاسرائيلية منذ عقود وخاصة بعد أسر جندي اسرائيلي بغية مقايضته بحريّة النساء والأطفال الفلسطينيين القابعين منذ سنوات في السجون الاسرائيلية دون وجه حق.
الهدف من هذه العجالة ليس الدفاع عن حركات المقاومة إن في فلسطين أو العراق أو لبنان أو أي قطر عربي يلجأ فيه الى العنف كردّة فعل لاحتلال أو ظلم مقيم. وليس الهدف استنكار وإدانة ما يقوم به المعتدي وخاصة الكيان الصهيوني منذ نشأته. فقد أصبح ذلك بمثابة اعلان مذلّ للعجز. فإسرائيل تفعل ما تعتبره في مصلحتها وقد كان لها تحالف مع الظلم والارهاب واغتصاب الحقوق منذ نشأتها. فهي مدينة بوجودها وتوسعها لاستعمال القوة المجرّدة عن الحق، وهي تكاد تكون مبررة في انتهاك واستباحة الحقوق العربية بما يبديه تجاهها المسؤولون العرب من تخاذل وتواطؤ وتسهيل لتحقيق كل أهدافها.
الهدف الوحيد من هذه العجالة هو تسليط الضوء على المسؤول الفعلي أو الأساسي عما حلّ ويحلّ في العالم العربي من مآس نتيجة الاحتلال أو المطامع الخارجية.
الاحتلال يولد المقاومة. والظلم يولد لدى المظلوم الغضب والرغبة في رفع الظلم كما يولد القلق وعدم الاطمئنان لدى الظالم وكذلك الرغبة في نشر ثقافة الهزيمة والاستسلام لدى المظلوم. ديناميكية الظلم هذه تحرّك في المظلوم مشاعر النقمة والرغبة في تفعيل القدرات وكل ما من شأنه رفع الظلم، وتدفع بالظالم الى فرض ثقافة الهزيمة والاستسلام على المظلوم عن طريق تشويه الوقائع وخلق ظروف الوهن والتفكك الضامن لحالة اليأس والقبول بالأمر الواقع. إن هذه الديناميكية تحكم علاقة الدولة العبرية بالعالم العربي عامة والشعب الفلسطيني على وجه الخصوص منذ نشأتها.
وإذا كانت اسرائيل أو أي معتد يلجأ الى الظلم والاحتلال او استعمال القوة دون وجه حق في ما يعتبره مصلحة له، فما هو السلوك الذي يمكن توقعه لرفع الظلم وإنهاء الاحتلال في نظام عالمي لا يشكل القانون فيه وسيلة فعّالة لحماية الحقوق إن على الصعيد الأممي أو الفردي؟
إن النظام الدولي بما هو تجمّع بين الدول التي هي شخصيات معنوية تمثل مجتمعات بشرية معينة يعطي هذه الدول حقوقا في السيادة والاستقلال والمساواة ويضع على عاتقها واجبات تكمن في احترام هذه الحقوق للدول الاخرى. ولكن في واقع الحال وفي غياب مؤسسات قانونية تطبّق بفاعلية هذه الحقوق والواجبات فإنه يترك لهذه الدول حماية حقوقها ومصالحها من خلال قدراتها وبوسائلها الخاصة.
وبما أن الدول المكونة للمجتمع الدولي تتفاوت كثيرا لجهة القدرات العسكرية والاقتصادية، فإن الدول الصغيرة والضعيفة، وخاصة تلك التي هي من صنيعة المستعمر الذي شاء تمزيق الأمم لتسهيل حكمها، كما هي الحال في معظم دول العالم العربي، تعاني من معوّقات كثيرة تجاه الدول القوية.
ففي الإطار الدولي والدستوري يناط بالسلطة الحاكمة واجب الدفاع عن حقوق الشعوب والأمم ومصالحها. فالسلطات الحاكمة تكتسب شرعيتها وتضمن التفاف شعوبها حولها بقدر ما تكون فعّالة في حماية حقوق شعوبها ومصالحها وبقدر نجاحها في رفع الظلم عندما يتعمّق الشعور بالظلم لدى الشعب.
فتخاذل السلطات الرسمية في الدفاع عن حقوق شعوبها ومصالحها ورفع الظلم عندما تقع له نتائج في منتهى الخطورة. في الدرجة الأولى تضعف الثقة التمثيلية بين الحاكم والمحكوم بما يهدد وقد يودي بشرعية الحاكم على الأقل في نظر شعبه. ثم إن تخاذل الحاكم أو فشله في تأمين مصالح شعبه ورفع الظلم عنه يدفع بهذا الشعب الى الذهاب وراء حركات ومنظمات بديلة تبدو أكثر فاعلية في الدفاع عن الحقوق وتأمين المصالح الوطنية أو الشعبية.
قد تدفع حالة فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم والشعور الشعبي بأن الحقوق والمصالح مستباحة، الى انقلابات عسكرية او ثورات شعبية وفي معظم الحالات الى تصدّع اجتماعي ومؤسساتي داخل الأمة. وفي المقابل فإن المعتدي أو المحتل يسعى جاهدا الى نشر ثقافة الهزيمة لدى المعتدى عليه أو المحتلّة أرضه فيقوم بكل ما في وسعه لتضخيم قوته في نظر الضحية وإضعاف هذا الأخير والقضاء على كل ثقة بالنفس لديه ودفعه الى الاستسلام للأمر الواقع مهما كان مهيناً.
وبما أن السلطات الرسمية هي التي تسيطر على القوى العسكرية وتبنّي وتطبيق السياسات الاقتصادية والمالية وهي التي يفترض بها التعبير عن مصالح شعوبها والدفاع عن حقوقها، فأول ما يسعى إليه صاحب المصلحة في إضعاف هذه الشعوب وعجزها عن المطالبة بحقوقها، هو العمل على خلق الفجوة والتباعد بين الحاكم والمحكوم، وتجريد الحاكم من الشرعية في نظر شعبه بحيث يسهل ابتزازه.
هنا يؤدي الفساد، كوسيلة للسيطرة، دورا أساسيا. فالحاكم الذي لا يستمد ولا يشعر بأنه يستمد قوّته وشرعية حكمه من شعبه، وأن استمراره بالحكم ونعيم السلطة والثروة مرتبط بإرادة ومصالح خارجية لا تعكس في معظم الأحوال إرادة ومصالح شعبه، يميل الى سلوك يضمن استمرار حكمه ولو لم يكن في ذلك مصلحة شعبه أو وطنه.
نظرة عابرة الى الواقع العربي تعطي فكرة واضحة عن مدى نجاح القوى والارادات الخارجية في خلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم ومدى تهيّب ومراعاة الارادة والمصالح الخارجية في سلوك الحاكم العربي سوى استثناء. ثم إن نشر ثقافة الهزيمة لدى المظلوم أو الخصم يقضي كذلك بمحاولة التفكيك الاجتماعي والسياسي وتغييب كل ما من شأنه أن يوحّد ويصلّب القدرة على المقاومة والصمود لديه.
فإذا نظرنا الى نمو الطروحات والغرائز الطائفية والمذهبية والاتنية والقبلية التي تضمن تفكيك وشرذمة المجتمع في العالم العربي فيما يجري العمل بكل جهد لتغييب الخطاب القومي المستنير الجامع الموحّد، ندرك الى أي مدى تمكنت الارادات والمصالح الخارجية من القضاء حتى على مظاهر الحيوية في المجتمعات العربية وبالتالي في نيل مبتغاها بصورة فعّالة.
ان التفكك الداخلي يضعف الى حد بعيد السلطات الحاكمة كمعبّر عن ارادة ومصلحة وطنية واحدة فتصبح أكثر عرضة للابتزاز من قبل القوى والارادات الخارجية، ويزيد ذلك في عجزها عن اتخاذ المواقف التي تتطلّب حزماً وصلابة تجاه تلك القوى والارادات. وكلما ضعفت السلطات الحاكمة تجاه القوى والمصالح الخارجية ازدادت رغبة هؤلاء في استباحة حقوق شعوبها ومصالحها.
لكن ديناميكية الظلم تعود تفعل فعلها لدى الشعب غير الممثل بسلطة فعّالة في الدفاع عن حقوقه ومصالحه فتنشأ لديه خارج اطار السلطات الرسمية حركات وتنظيمات تقدّم طروحا لرفع الظلم وتشكك في شرعية السلطات الحاكمة وقد يؤدي ذلك الى انقسامات داخلية أو حروب أهلية.
ان ما جرى ويجري في العراق ولبنان وفلسطين يقدّم الدليل القاطع على صحة هذا الطرح، وقد نجد الدليل على شروخ داخلية ضمن جميع المجتمعات العربية.
لكنّ الحركات والتنظيمات الداخلية، مهما أصابت في طروحاطها ومهما عمّت شعبيتها، تبقى محدودة الامكانات المادية والاقتصادية والوسائل القانونية لبلوغ أهدافها، وذلك يدفعها الى استعمال العنف. فللسلطات الرسمية وسائل عدة للدفاع عن حقوق شعوبها وأوطانها لا تتوافر عادة للحركات والتنظيمات الداخليةالتي ترفع شعار العمل على رفع الظلم. فالسلطات الدستورية بإمكانها تحقيق أهداف وطنية دون بلوغ حد استعمال العنف مع الدول والارادات الخارجية. فهي باستطاعتها التأثير على المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية للدول الخارجية من طريق التفاوض السلمي والضغط السياسي والاقتصادي دون اللجوء الى استعمال القوة. وكلّما سارت في هذا الاتجاه اقتربت من شعوبها وترسخت شرعيتها.
نذكر مثلا ما بات يعرف بمبادرة العاهل السعودي، وليّ العهد آنئذ، في اجتماع القمّة العربية في بيروت عام 2002 لحلّ شامل للنزاع العربي ــ الاسرائيلي وردود الفعل الايجابية التي لاقتها في العالم العربي على جميع المستويات. الا أن هذه المبادرة، بسبب عدم الجدّية التي أولتها إياها جميع الحكومات العربية وخاصة تلك التي رعت هذه المبادرة، سرعان ما طواها النسيان وأضيفت الى خيبات الأمل الشعبية بالنسبة لكل الوعود والتصريحات التي تصدر عن القيادات العربية الرسمية بالنسبة للأهداف والقضايا الوطنية الهامة.
أودّ الآن أن أجيب عن سؤال قد يتبادر الى أذهان البعض ويتعلّق بمدى واجب السلطات الرسمية في الدول العربية القائمة في الدفاع عن مصالح وحقوق عربية في دول وأقاليم تتعدّى حدودها. فيمكن السؤال مثلاً ما الذي يلزم سلطة رسمية لدولة في الخليج العربي أو المغرب العربي، الوقوف بحزم لنصرة شعب يتعرّض للعدوان والظلم في دولة أو اقليم عربي آخر كالعراق أو فلسطين أو لبنان الخ..... سوف احاول الاجابة عن هذا السؤال على مستويات ثلاثة: انساني، وقومي وإقليمي وطني.
اننا نعيش زمن العولمة في عالم يضيق وتتشابك فيه المصالح والمصائر. فالظلم الذي يقع في أية بقعة من العالم ينال من كرامة الانسان في سائر بقاع العالم، وخاصة أن مصائر الدول النامية والشعوب المستضعفة وأوضاعها تتشابه وبالتالي فإن حاجتها لروادع تحمي حقوقها ومصالحها على مستوى عالمي بلغت غاية الأهمية.
أما على الصعيد القومي فواجب السلطات الرسمية في الدفاع عن الحقوق والمصالح العربية، له جذور ضاربة في أعمق المكونات الوجدانية لدى الشعب العربي التي لم يغيّبها التفكيك الاقليمي الذي صنعه المستعمر بإنشائه ورسمه لحدود معظم الدول العربية القائمة، وبالتالي له تأثير كبير على موقف الحاكم في تمثيله لمشاعر المحكوم ورغباته في جميع الأقطار العربية.
في دراسة ميدانية قامت بها مؤسسة «زغبي انترناشونال» عام 2002 ، على ما أذكر، عن عناصر الانتماء والهوية للمواطن العربي في عدّة دول عربية، ضمّت المغرب ومصر والمملكة العربية السعودية ولبنان وسوريا والأردن، طلب من المشتركين في تلك الدراسة تحديد الأولوية بالنسبة إلى شعورهم بالهوية والانتماء. وبالتحديد هل يشعرون بأن الأولوية في قوة انتمائهم هي الى الدين (مسلم، مسيحي...) أو الطائفة (سنّي، شيعي، ماروني...) أو القومية (عربي، كردي، تركماني) أو الدولة (مصري، سوري، لبناني) أو القبيلة أو العائلة... فكان جواب الغالبية الساحقة منهم أن انتماءهم القومي العربي يتقدم على كل مكونات الهوية والانتماء الاخرى. وقد استغرب البعض أو لم ترُق البعض هذه النتيجة وخاصة في دول مثل المغرب ومصر والمملكة العربية السعودية، فلم تمض سنتان على هذه الدراسة حتّى كررتها المؤسسة نفسها، فحلّ في الصدارة الانتماء الديني تلاه مباشرة الانتماء القومي. وقد تكون نتائج هذه الدراسة تبدّلت بسبب نشاط الحركات الدينية التي أصبحت في طليعة صانعي الخطاب السياسي العربي في السنوات الأخيرة، أو ربما حدث تعديل ملائم في المنهجية بعدما اصبح الاستاذ شبلي تلحمي شريكاً في إعداد هذه الدراسة الثانية والإشراف على تنفيذها...
المهم أن الانتماء القومي العربي يمثل لدى غالبية الشعوب العربية عنصرا هاما من عناصر الانتماء والهوية، ولا يزال يتقدّم على سواه من عناصر الهوية والانتماء بما فيها الانتماء الاقليمي، بالرغم من كل ما جرى ويجري لطمس معالم الهوية والانتماء العربي.
وقد كان هذا الشعور بالانتماء العربي ظاهرا لدى المستعمر قبل جلائه، فعمد الى تقطيع أواصر اللحمة داخل معظم اقطار العالم العربي من طريق خلق دول مستقلّة تسيطر عليها زعامات قبلية أو طائفية. ولكن بسبب الشعور بالممانعة الشعبية لهذا التمزّق لم يعارض المستعمر قيام الجامعة العربية التي كان يفترض بها أن تكون انعكاسا لحد أدنى من الرغبة في الاتحاد والتكامل بين الشعوب الناطقة بالضاد.
فالسلطات الرسمية في كل الاقطار العربية، مع كونها مؤتمنة على مشاعر شعوبها وطموحاتها، هي مسؤولة بصورة رئيسية عن الدفاع عن حقوق ومصالح الشعوب العربية وعن كل تقصير يؤدي الى استضعاف هذه الشعوب واستباحة حقوقها ومصالحها. فضلا عن ذلك فإن السلطات الرسمية ملزمة بتطبيق الاتفاقات التي تبرمها دولها كأعضاء في جامعة الدول العربية خاصة تلك المتعلقة بالدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي.
وواجب السلطات الرسمية في الوقوف مع أقطار عربية أخرى تتعرّض للعدوان ينطلق كذلك من أسس وطنية إقليمية بحتة. إن لكل دولة حاجات أساسية يجب تأمينها لكي تستطيع ممارسة حدّ أدنى من السيادة والاستقلال، وأهمها أن تكون في وضع اقتصادي سليم يوفّر حاجات مواطنيها المعيشية، وأن تستطيع الدفاع عن نفسها. وبالنظر الى صغر حجم وإمكانات كل من الدول العربية فإن التعاضد والتكامل الاقتصادي والروابط الفعّالة للدفاع المشترك في ما بينها هي خير ضامن لاستقلالها وعزّتها وحماية حقوقها ومصالحها.
الدم العربي يراق بغزارة في العراق وفلسطين ولبنان. والمدن والأحياء والجسور وعموم مظاهر العمران فيها تُهدّم. الخسائر المادية والاقتصادية هائلة. فهل يعقل أن تستمرّ أدوات القتل والتدمير وهذا الخراب دون التوقف والنظر الى أين تقع المسؤولية في كل ما يجري؟ ودون مساءلة الذين في أيديهم مقدّرات لو فعلت لغيّرت مسار معظم الدول المقتدرة وفي طليعتها الولايات المتحدة ومصير العالم العربي.
السلطات الرسمية في العالم العربي، بتقاعسها وتخاذلها وتواطؤها عبر السنين، مسؤولة بصورة رئيسية عما آلت إليه الأوضاع التي مكّنت المعتدي من التمادي في استباحة الدماء والحقوق والمصالح العربية. بعض هؤلاء الحكّام مسؤول عن تحريض المعتدي، كما صرّح رئيس وزراء اسرائيل، يدفعه الى ذلك اعتبارات مذهبية بدائية لا تؤدي إلا الى تفكيك العالم العربي وإضعافه وتسهيل استباحة الحقوق والمحرّمات فيه. وهناك بعض من الدول العربية القابضة على الكثير من المقدّرات العربية ومصالح الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة، والتي باستطاعتها لو اتخذت موقفا حازما بالنسبة إلى مصالح تلك الدول، أن تدفع بها الى الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار يحفظ دم الأبرياء من كل الأطراف. فالمسؤولية عن دم الأبرياء لا تقع على المحاربين المعتدين فقط وإنما تقع كذلك على كل من كان باستطاعته أن يوقف سفك الدماء ولا يفعل، وخاصة عندما يكون في موقع يحمل فيه واجبا اضافيا في حقن الدماء العربية البريئة كما هي الحال بالنسبة للحكام العرب.
وتتحمّل النخبة المثقفة التي يفترض بها أن تعمل على تقويم الاعوجاج في سلوك الحاكم العربي وحضّه على القيام بما هو مصلحة شعبه ووطنه مسؤولية كبرى، وخاصة هؤولاء الذين دفعتهم مصالح خاصة لأن يكونوا فقهاء السلطان وإعلاميي الأجرة. فالنخبة المثقفة تتحمّل جزءا كبيرا من المسؤولية لموقفها المنحرف الذي لا يفسّره سوى استشراء الفساد لدى معظمها.
أما المسؤولية في ما يتعدّى العالم العربي عمّا يجري من دم ودمار في بعض الأقطار العربية فتنفرد الولايات المتحدة، بقيادة ادارتها الحالية، بتحمّل مسؤولية أساسية ومباشرة عما يجري في العراق وغير مباشرة عمّا يجري في لبنان وفلسطين، وذلك بسبب قيامها بحرب عدوانية لا مسوّغ شرعي لها في العراق والعمل على تشجيع وترسيخ عوامل التفرقة بين أبنائه من خلال التأسيس لنمو الثقافات البدائية من مذهبية وطائفية وعرقية وتغييب الخطاب القومي الجامع بين معظم أبنائه وبين العراق ومحيطه العربي. أما مسؤوليتها عن سفك الدماء والدمار الذي يلحق بلبنان وفلسطين فتكمن في موقفها وحيدة بين دول القرار في الأمم المتحدة في الممانعة بالدعوة إلى وقف فوري وغير مشروط للنار، الأمر الذي يعطل الدور الأهم التي وجدت الأمم المتحدة من أجله وهو منع استعمال القوة لحل الخلافات بين الدول فضلا عن منع ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. موقف الولايات المتحدة يضعها في موقف المعطل لسيادة وحكم القانون في الاطار الدولي والراعي للعودة الى شريعة الغاب.
أود أخيرا أن اتناول الدور اللافت لإيران في ما يجري من دم ودمار في العالم العربي. ان الموقف الإيراني المؤيد للحق الفلسطيني يفضل كثيراً موقف العديد من الدول العربية. ولم يتغير هذا الموقف ولم يكن عرضة للمساومات منذ قيام الثورة الاسلامية في إيران. الا أن الموقف الايراني من الاحتلال الأميركي للعراق والمقاومة العراقية وخاصة في احتضانه لتيارات ومنظمات طائفية قد ساعد المحتلّ على التمزيق الداخلي للعراق من طريق خلق قوانين ومؤسسات تضمن نمو الثقافات المذهبية والاتنية التي تقضي على وحدة العراق وتطيل إقامة المحتل فيه. وها هو العراق يقف بفضل ذلك على أعتاب حرب أهلية لا تبقي ولا تذر بسبب هذه الشرذمة الداخلية.
يرى العديد أن الموقف الايراني في العراق قد ساعد على نمو ثقافة التموقع المذهبي والتصدّع الداخلي الذي يعاني منه العراق. وقد ساعد ذلك على تغييب الخطاب العربي في العراق ولجم الشريحة الأكبر في المجتمع العراقي عن المشاركة في مقاومة الاحتلال وبالتالي تقصير مدة إقامته. وفضلا عن انعكاسات الموقف الايراني على الوضع داخل العراق فقد سهّل الموقف الايراني هذا، الانقسامات المذهبية وأثار النعرات الطائفية في أقطار عربية أخرى ولدى بعض الحكّام العرب الذين يتوجسون خطرا من توسع النفوذ الايراني في المنطقة. وربما يكون ذلك قد انعكس في مواقف بعض الحكومات العربية غير المؤيدة للطرف اللبناني الذي يتنكّب الجهد الأكبر والضرر الأعظم في الحرب الاسرائيلية القائمة على لبنان.
لكن لا يجوز وضع تبعات الوضع القائم في العراق بالدرجة الاولى على إيران. فإيران تقوم بما تراه مصلحة لها، ويتحمّل العراقيون بالدرجة الاولى المسؤولية عن تفككهم الداخلي في مواجهة المحتل الخارجي وفي السماح بأن يحلّ الشعور المذهبي محلّ الشعور القومي الجامع الموحّد لأبناء العراق.
وختاما من المسؤول عن كل هذا الدم والدمار والتشريد والعذاب الذي يحلّ في بلداننا العربية؟ كلّنا مسؤول عمّا سمحنا بأن تصل الأمور إليه وسوف تتفاقم مسؤوليتنا بقدر ما نقصّر في اتخاد العبر مما نحن فيه. يجب علينا أن نجعل من دماء شهدائنا دافعاً لإصلاح ما هُدّم من علاقة بين الحاكم والمحكوم والقضاء على الفساد الذي سهّل الانحراف عن واجب مراقبة المسؤول وتقويم ما اعوجّ من سلوكه وفي العمل الدؤوب على تنمية وتفعيل كل ما يجمع ويوحّد ويصلّب ويعزز قدرتنا على البناء لحياة كريمة لكلّ مواطن في عالمنا العربي وردّ كل ما من شأنه أن ينمّي عوامل الفرقة من ثقافات طائفية ومذهبية وعرقية وسواها مما يحول دون تفعيل كل طاقات الوطن الوطن العربي لخدمة أبنائه.

* أستاذ محاضر في القانون الدولي بجامعة جورج تاون في واشنطن