نجيب نصر الله
منذ الاندحار العسكري عن لبنان في أيار عام 2000 والجيش الإسرائيلي، كما القيادة السياسية، بالرغم من قلة الفارق، يعيشان أزمة الإخفاق المر. إذ لم يسبق لإسرائيل أن أُجبرت على الانكفاء القسري عن أرض عربية. الدرس اللبناني لم يفارق الوعي الإسرائيلي أبداً، إنها حقيقة أساسية، بل أحد حوافز العدوان. وهذا يتبدّى جلياً في حجم التدمير الإسرائيلي الذي أخذ أبعاداً غير مسبوقة، وكذلك في نوع الاستهداف الذي تركّز على المدنيين.
الاندحار عن لبنان شكّل الضربة الأولى لقوة الردع الإسرائيلية، وعليه فإن الحديث الإسرائيلي عن استعادة الردع كان بالغ الجدية، ويستند إلى حاجة فعلية ترقى إلى أن تكون أساسية في ديمومة الكيان.
الأكيد أن ما يتسرب عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية من «معلومات» عن احتدام الخلافات بين مؤسسة الجيش من جهة، والقيادة السياسية من جهة أخرى، وتحميل كل طرف للآخر مسؤولية الهزيمة اللبنانية الجديدة، لا يمكن فهمه إلا في أنه يندرج في السياق المعتاد نفسه، الذي يحاول الحفاظ على «أسطورة» الجيش القوي والقادر. إنها اللعبة نفسها التي طالما لجأ إليها العدو حين تشتدّ الأزمة، أو تلوح بوادر الضعف. إن المعنى الوحيد لهذه الخلافات إنما يستهدف القول إن المستوى السياسي وتردده في إصدار القرار، هو المسؤول عن الإخفاق الكبير، وتبرئة المؤسسة الأم، التي كانت وتبقى عماد الكيان الوحيد، إنْ لم تكن هي الكيان نفسه.
من الضروري التنبّه وعدم الانزلاق الى تصديق هذا النوع من الأكاذيب التي درج بعضنا على تصديقها، بل النسج عليها. لقد تعرّض الجيش الاسرائيلي الى أول اختبار عسكري حقيقي، وكانت النتيجة أن المبالغات التي استحكمت في الوعي العربي عن جبروت هذا الجيش، وقدراته الخارقة لا تعدو أن تكون ادعاءات.
ليست المشكلة في كفاءة الضباط المسؤولين عن القرار العسكري، ولا في أن القرار السياسي المتردّد، قد قيّد من إمكانات القوة الردعية. الوقائع العسكرية المستقاة من الميدان، توضح بشكل لا يقبل الاستئناف أن هذا الجيش يستمدّ أسطورته من منظومة خرافات كاملة، وكان ينقص الاختبار الحقيقي.
ما قبل 12 تموز لن يشبه ما بعده. هذا أمر محسوم لا جدال فيه، والعكس غير ممكن أبداً. الكلام الاسرائيلي المتصاعد عن احتمال تأليف لجنة للتحقيق في أسباب الإخفاق لا يبتعد عن الهدف عينه، الذي يحاول تلميع صورة هذا الجيش، أو أقله عدم تلطيخها أكثر.
إنه المسلسل المألوف، من ضمن المسلسل نفسه، سوف يتكرر الحديث عن «الأخلاقيات العسكرية» التي قيّدت قدرات الجيش في المواجهة، ومنعته من مهاجمة المقاومين الذين احتموا بالمدنيين. سوف نسمع الكثير من الأكاذيب المنتقاة، إلا أن الهدف الأصلي الذي يتلخّص في حماية «الأسطورة» لم يعد ممكناً البتّة.
من الضروري القول إن اسرائيل كانت وستبقى عبارة عن ثكنة عسكرية متقدمة في المنطقة، وشرط بقاء هذه الثكنة وديمومتها هو الحفاظ على التفوّق العسكري الحاسم، وشرط هذا التفوق، إضافة الى التزوّد بأفضل الأسلحة وأحدثها وتلقّي أرقى التدريبات، هو الحفاظ على «الأسطورة» التي طالما أمدّت هذا الكيان بأسباب الحياة.