ساتيا ساغار *
لكل الذين يظنون أن النظام الحاكم في إسرائيل هو أكثر الأنظمة حقارةً وعنصريةً وقمعيةً في العالم، ها هي بعض الأخبار السيئة بالفعل.
فالأساليب الفظّة التي تلجأ إليها الدولة الإسرائيلية لن تقتصر على حدود منطقة الشرق الأوسط وحسب وإنما يُخشى أن تتحوّل إلى نموذج للسلوك الجماعي العالمي في المستقبل.
فمشاهدة صور الدمار الرهيب الذي يتسبب به الإسرائيليون في غزة وفي لبنان، تقودنا إلى طرح سؤال بسيط يرجّح أن كثيرين يطرحونه: كيف انفلتت ثمرة التزاوج المصطنع والملفّق بين عقدة الذنب الأوروبية والطموح الأميركي من عقالها مراراً وتكراراً؟.
والجواب أنه بدلاً من أن يُنظر إلى إسرائيل على أنها دخيل تاريخي، ترى النخبة أنها الدولة ــ النموذج التي ترغب أن تكون لها السيطرة على العالم في المستقبل.
عالم تعيش فيه الطبقات الحاكمة من الموارد المسروقة ومن عمل أولئك الذين يصنّفون على أنهم «أقل من البشر»، في ظل نظام يقوم على السياسة المنظّمة والممنهجة للتمييز العنصري. عالم يحقّ فيه لقوات الدول المسلحة بأن تطلق النار على من يحلو لها، حتى على شعب بأكمله وتسمّيهم «إرهابيين» من دون أن تلقى العقاب. عالم يقتضي قيام دولة تنتمي إليه، للقضاء على سيادة دولة أخرى وتحويل شعبها مجرد جماعة لا حول لها ولا قوة، جماعة من دون وجه ولا حتى اسم.
والسؤال عن خلفية تسامح ما يسمى «المجتمع الدولي» مع جرائم إسرائيل الوقحة ضد الإنسانية ليس جديداً أبداً، فهو سؤال يُطرح يومياً منذ قيام هذه الدولة بالقوة قبل ستة عقود من الزمن. فالإرث الإرهابي الصهيوني، والمذابح المنظمة في حق الفلسطينيين، والاغتصاب المنظم لأرضهم، إلى جانب القصف الدائم للمدنيين، وقتل ناشطي السلام... كان من المفترض أن تؤدي إلى محو هذه الدولة التي لم ينبت ريشها بعد.
حاول كثيرون حل هذا اللغز بطرق مختلفة.
رأى بعضهم أن إسرائيل هي كلب حراسة وضعته أميركا في الشرق الأوسط «كي يراقب الثروة النفطية في المنطقة ويعزّز تجارة بيع الأسلحة الغربية وإجبار الأنظمة العربية على تقديم التنازلات». ففي كل أعمالها، تتّبع إسرائيل خطى معلميها المخلصين في الولايات المتحدة التي ليست الجرائم الإسرائيلية سوى نقطة صغيرة في بحر جدول جرائمها ضد الإنسانية.
أما بعضهم الآخر، فاعتبر أن إسرائيل التي يقودها اليهود المتسلّطون تتلاعب بالغرب لتحقيق مآربها. وهي تلقى دعم كل الأصوليين المسيحيين في أميركا، أولئك الذين يؤمنون بدور الصهاينة في زرع البهجة وفي عودة يسوع المسيح وإشعال فتيل المعركة الفاصلة بين قوى الخير والشر. (لكن هؤلاء الأشرار هم أنفسهم الذين يسرّعون من دنو نهاية العالم).
وبعبارة أخرى، فإن قيام إسرائيل، بمساعدة القوى الغربية وتشجيعها، كان خداعاً تاريخياً للجماعات اليهودية في أوروبا، على حساب الشعب الفلسطيني قليل الحظ، محققةً بذلك الحلم النازي بالتخلص من اليهود. احتلال ساخر يقوم به ضحايا العنصرية الأوروبية لضحايا استعمارهم.
لا شك في أن تاريخ أوروبا والجيوسياسة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية لعبا دوراً كبيراً في قيام إسرائيل.
وبطريقة أو أخرى، تختزن دولة إسرائيل كل إرث أوروبا العائد إلى القرن التاسع عشر بكل مفاهيمه المبسّطة حول العرق والبيولوجيا، والمساواة بين المصلحة الوطنية والاستعمار، فضلاً عن مكائد الاستعمار الرهيبة والأسوأ من كل ذلك، الفاشية التي طبعت السياسة الصهيونية بشكل كبير. وقد عكس السلوك الإسرائيلي في المنطقة، خلال العقود الستة الماضية، أيضاً رغبة أميركية شديدة في السيطرة على الموارد الطبيعية في العالم بأسره.
غير أن كل هذا التركيز على الوجهات التاريخية يخفي حقيقة أن إسرائيل اليوم أصبحت معياراً لمستقبل عالمي رهيب. فهنا ترسم أعباء الماضي المتكدّسة أطر العالم المقبل.
ففي الأساس، كان بحث إسرائيل عن حماية مصالحها بصرف النظر عن الثمن المقابل، من دون احترام مبادئ السلوك الحضاري ولا القانون الدولي، قد أصبح النموذج الذي تحتذي به الحكومات الأخرى في مناطق أخرى من العالم. وكل المؤشرات تؤكد على هذا التوجه العالمي المؤسف. فتواطؤ زعماء العالم مع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين واللبنانيين خلال الأيام الماضية، هو الدليل على أن النخبة في كل مكان تجد أن العنف هو سياسة ناجعة ليس في الإطار الشرق أوسطي فحسب بل في مناطق أخرى من العالم أيضاً. عليك فقط أن تشيح بنظرك قليلاً عن إسرائيل وتنظر إلى العالم كي تدرك ما الذي أعنيه. أنظر إلى السياسات الإسرائيلية «المصغّرة» التي تلجأ إليها الحكومات في كل مكان ضمن حدود بلدانها ضد الفقراء، والأقليات الإثنية، والمهمّشين تاريخياً أو أي شريحة تمكن محاصرتها بثمن رخيص. فبالنسبة إلى مناصري الدولة العبرية والمحافظين على الامتيازات، تُعتبر إسرائيل رائدة في مجال ابتكار الأساليب الجديدة والوقحة لممارسة النفوذ غير المشروع.
لهذا السبب، على رغم أن عدداً كبيراً من الحكومات يدين إسرائيل علناً، إلاّ أنها في دواخلها تدرك أن من الأفضل لها أن تضيف عناصر قمعية مماثلة إلى سياساتها الداخلية. فمن جهة تلجأ هذه الحكومات إلى التمثّل بإسرائيل على المستوى الدولي. في الهند مثلاً، بعد تفجيرات مومباي التي خلّفت 200 قتيل، دعت الحركات اليمينية الهندية إلى انتهاج السياسة الإسرائيلية وتفجير كل من هو مسؤول عن التفجيرات أينما وجد. وهذا يعني قصف 4 دول على الأقل. فالرأس المدبّر للتفجيرات المشتبه به بحسب الموقف الرسمي الهندي موجود في كينيا وتلقى تدريباته في باكستان وأعد للعملية في نيبال وتسلّل إلى الهند عبر بنغلادش.
ووفقاً لهذا المنطق على الهند أن تقصف تل أبيب أيضاً لأن العدوان على لبنان تسبب في مقتل هنديين وجرح عدد آخر. (إنها مفارقة لافتة إذ إن الهند هي اليوم المستهلك الرئيس للأسلحة الإسرائيلية). غير أن الاقتداء بإسرائيل في كل أساليبها، هو وصفة لاندلاع حرب عالمية دائمة ــ وهو سيناريو قد يناسب بعض الدول وقواعدها ولكن ليس غالبية سكان العالم. من جهة أخرى، تستخدم الحكومات حول العالم النموذج الإسرائيلي لترهيب شعوبها. وفيما إسرائيل لم تبتكر مفاهيم الخطف والتعذيب والاغتيالات في حق معارضيها، إلاّ أنها جهدت أكثر من أي دولة أخرى من أجل تشريع هذه الأساليب دولياً. (هذا الأمر كان ممكناً طبعاً بسبب تأثير إسرائيل الكبير في الحكومات الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة التي تحدّد ما هو مشروع وما هو غير مشروع).
نظراً إلى الامتعاض لدى شعوب العالم من قوى العولمة وحاجة هذه الشعوب إلى النخبة لتقود حركات التمرّد، تعدّ المقاربة الإسرائيلية لفرض النظام والقانون بالقوة مساهمة كبرى في اتجاه الحفاظ على الستاتيكو غير العادل الذي يسيطر على العالم. لذلك كل ما تحتاجه هو أن تغمض عينيك، وتلجم وعيك وتتخيل أنك الحكومة الإسرائيلية ومعارضيك من عمال ومزارعين وطلاب هم فلسطينيون.
بهذا المعنى ليست الدول فحسب، بل كذلك المؤسسات والشركات ــ حملة الأسهم الرئيسية للإمبراطورية ــ التي تبحث عن التشبّه بإسرائيل وخصوصاً لجهة الأفكار المتعلقة بأساليب قمع المنشقّين وكيفية مواصلة إدارة العالم. في كل الأحوال، نجد في مركز الرأسمالية العالمية إلحاحاً أتوريتارياً يهدف إلى احتكار كل شيء لكنه عاجز عن تحقيق طموحاته لأن شعوب العالم كانت قد ناضلت خلال قرون من الزمن لترسيخ بعض المعايير الأساسية والقوانين المتعلقة بالسلوك الإنساني والاجتماعي. لذلك فإن استمرار إسرائيل في القضاء على هذه المعايير وتعزيز قوى البربرية سيمهّد الطريق أمام أصحاب الأموال للسيطرة على العالم.
في المحصلة وبسبب أهمية إسرائيل عند النخب الدولية، فإن حل المسألة الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق عبر التركيز على الوضع السياسي في الشرق الأوسط فحسب. وبخلاف ما تعتقده كوندوليزا رايس، فإن حلاً دائماً لهذه المسألة لن يأتي عبر القضاء على حزب الله، بل إن السلام العادل ممكن فقط عبر تعزيز قيام المزيد من المنظمات المستعدّة لمواجهة المصالح الدولية المختلفة وتحدّيها التي تهدف إلى تحويل عالمنا إلى دولة إسرائيلية كبرى.

* صحافي ومخرج هندي