ريتشارد لابيفيير *
منذ الثاني عشر من تموز الماضي، لم تدع مجموعة الثمانية ولا الأمم المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي ولا حتى جامعة الدول العربية رسمياً إلى وقف إطلاق النار في لبنان.
لكن في فورة من العزة والكرامة لا تخلو من خلفيات معادية للشيعة، التزمت يوم الاثنين الماضي، جامعة الدول العربية هي ذاتها ـ التي وصفت بعض ممالكها النفطية مقاومة حزب الله بـ»المغامرة» ـ بالتدخل لدى الأمم المتحدة من أجل دعم خطة (رئيس الوزراء اللبناني) فؤاد السنيورة. وأعطت الجامعة الأولوية ليس للدعوة إلى وقف إطلاق نار فوري وحسب وإنما أيضاً للانسحاب الإسرائيلي من لبنان، إلى ما بعد الخط الأزرق، فضلاً عن مزارع شبعا.
ومن الآن وصاعداً، لم يعد بإمكان الأعضاء الدائمين وغير الدائمين في مجلس الأمن أن يغضوا الطرف عن هذه الدعوة. فبعد مقتل مراقبي الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني، وبعد مجزرة قانا وما تلاها من مجازر، لم يعد يحق للأمم المتحدة بأن تبقى مجرد غرفة لتسجيل الرغبات الأميركية ـ الإسرائيلية حتى وإن لم تتوقف السيدة كونداليزا رايس ـ منذ بدء الأزمة ـ عن ممارسة الضغوط على أمين عام المنظمة الدولية كوفي أنان. وبالرغم من هذه المحاولة الرامية إلى وضع الأزمة تحت وصاية الأمم المتحدة، فإن الأيام القادمة ستكون حاسمة من أجل تعديل وإعادة توجيه مشروع القرار الأميركي ـ الفرنسي (المعروض أمام مجلس الأمن الآن) نحو وجهة معقولة تأخذ بالنقاط الواردة في خطة السنيورة أو بالأحرى الخطة «اللبنانية».
فإذا لم يتحل مجلس الأمن بالحكمة وظل مصراً على إيجاد حل مؤقت للعمليات العدائية من دون خروج القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية، ستدخل المنطقة في عملية «غزونة» (Gaza - fication) حتمية. والحقيقة هي ان هذا ما تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تحقيقه: الدعوة إلى استبدال قواتهما بقوة دولية لحفظ الاستقرار الذي تعرف هاتان الدولتان جيداً انه بعيد المنال، الأمر الذي يبرّر بالتالي تكريس احتلال جديد، إذا لم يكن استعماراً لجنوب لبنان. وعلى شاكلة ما يجري في غزة، ستبادر القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب حيناً والعودة إلى الانتشار حيناً آخر، فتعمد ساعة تشاء إلى تنفيذ عمليات الاغتيال والقصف «الموجهة» إلى جانب الاعتقالات العشوائية التي تستمد شرعيتها من «الحرب العالمية ضد الإرهاب». ولكن من أجل تفادي شبح «الغزونة»، لا بد من الخروج من الدوامة الفاسدة للقرار 1559 الذي من الضروري أن نعيد التأكيد أن خطيئته الأصلية هي محاولة إخراج الوضع اللبناني، على نحو مصطنع، من قوس الأزمات الشرق أوسطية وكأن الأمر يتعلق بالنمسا أو سويسرا. غير انه لا يمكن إعادة بناء الدولة اللبنانية من دون الأخذ بالاعتبار الأزمات السابقة مع إسرائيل وعدم استقرار الخط الأزرق ـ خصوصاً مزارع شبعا ـ ومن دون الأخذ في الحسبان مواقف الجار السوري وعامل الاحتلال الإسرائيلي للجولان أو حتى قضية وجود 400 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان.
إن القرار 1559 هو بحسب وزيرة الخارجية الإسرائيلية «عمل رائع لا بد من إنجازه». أما جاك شيراك، الذي سعى إلى استصدار هذا القرار من أجل إنجاز مصالحة مع الأميركيين بعد الخلاف المشهود حول العراق، فقد ضحى بأربعين عاماً من الدبلوماسية الفرنسية على مذبح صداقته المميزة مع رفيق الحريري. وبخلاف سلفه فرنسوا ميتران الذي لطالما رفض إيكال مجموعة الثمانية دور «مجلس إدارة العالم»، بذل شيراك جهداً من أجل صدور إعلان غير متوازن عن قمة الثمانية في بطرسبرغ. وعبر إصراره على الدفاع عن صوابية «قراره» أي القرار 1559، وتصريحه إلى صحيفة «لوموند» في 27 تموز الماضي، ان النظام السوري نظام «أقلّوي»، واصل جاك شيراك سياسة الانغلاق أو الانطواء (s’enfermer) إلى أن بدأت واشنطن ولندن تخططان لاستدعاء حلف شمال الأطلسي. لهذا كان لا بد لشيراك من أن يعيد النظر بضرورة إشراك الدبلوماسيين الفرنسيين الذين أبعدوا بعناية عن المداولات والاتصالات التي سبقت صدور القرار 1559 وذلك كي ينقذ الرئيس الفرنسي ما تبقى من مصداقية للدبلوماسية الفرنسية في المنطقة. ولكن السؤال هل بإمكان شيراك الخروج من دائرة القرار 1559 من دون التراجع عن مواقفه وعلى رأسها شعار إعادة بناء الدولة اللبنانية.
بعيداً عن الجوانب الأكثر أهمية والأشدّ دراماتيكية لهذا السؤال، لا بد من إعادة إحياء المشاريع القديمة التي تقضي بعقد مؤتمر إقليمي شامل من أجل معالجة النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي يعتبر «أم الأزمات» في الشرق الأوسط.هذا بالضبط ما كان جاك شيراك قد اقترحه أمام البرلمان اللبناني في تشرين الأول من العام 2002.

* باحث سياسي فرنسي