وليد شرارة
أن يتبنى الباحثون والخبراء الإسرائيليون المنظور الطائفي لفهم الواقع السياسي والاجتماعي العربي هو أمر مفهوم. فهذا المنظور ينسجم مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية في تمزيق النسيج الاجتماعي العربي وهو يعكس إلى حدّ كبير نظرة إسرائيل إلى محيطها والعالم، التي تعبّر عن طبيعتها الحقيقية العميقة. فالمفهوم الصهيوني للأمة يعرّف هذه الأخيرة باعتبارها جماعة عضوية، مجرد امتداد للقبيلة، تتأسس على رابطة الدم على عكس أغلبية التعريفات الأوروبية، باستثناء الألمانية، التي ترى أن الأمة مشروع للعيش المشترك، أساسه العقد الاجتماعي. إنّه لأمر طبيعي أن تنظر جماعة عضوية عنصرية إلى بقية الكون على أنها مجموعة من الجماعات العضوية، الطائفية والقبلية والعرقية، المتناحرة. ومن الطبيعي أيضاً أن يتبنى الاستشراق الرخيص، خدمة للمشاريع الاستعمارية، هذا المنظور ويروّج له. المستغرب هو تبنيه من قبل جيل كامل من الباحثين الغربيين الجدد في مجال العلوم الاجتماعية، يدّعي التحرر من الأفكار المسبّقة والموروث الثقافي الاستعماري. فمنذ الغزو الأميركي للعراق، عاد هذا المنظور ليطغى في مجال العلوم الاجتماعية وفي مقاربات غالبية الخبراء الغربيين في الشؤون العربية والإسلامية.
أوليفيي روا هو من أبرز الباحثين الفرنسيين والغربيين الذين تعتمد مساهماتهم على الحركات الإسلامية كمراجع في الأوساط الأكاديمية وكذلك في الأوساط السياسية والديبلوماسية الغربية. ظن البعض أن إصرار روا على التمييز بين الحركات الجهادية السلفية، كتنظيم القاعدة مثلاً، التي سمّاها «الشبكات الإسلامية المعولمة»، وبين ما عدّها حركات إسلامية وطنية، كحزب الله وحركة حماس، نابع فقط من حرص علمي على الدقة والموضوعية. لكنّ نصاً أخيراً خصّصه لتحليل المواجهة الأخيرة في لبنان، كشف الخلفية الفعلية والمنطق العميق اللذين يفسران هذا التمييز ومجمل مواقفه، هو وأترابه، من أوضاع منطقتنا. فبعد استعراض تاريخي ــ سياسي للصراع بين ما عدّه محورا شيعيا، أي إيران والحركات الإسلامية الشيعية، ومحوراً سنياً سلفياً يضم المملكة العربية السعودية والحركات الجهادية السنية، يؤكد أوليفييه روا أن السياستين الأميركية والإسرائيلية قد دفعتا الحركات الإسلامية الشيعية والسنية، بما فيها السلفية إلى التقارب، الأمر الذي يعدّه كارثة حقيقية بالنسبة إلى المصالح الاستراتيجية الغربية. وهو يأخذ على إسرائيل قيامها بقصف كل لبنان، أي بكلام آخر، بعدم حصر عمليات القتل الجماعي والتدمير الشامل في المناطق ذات الغالبية الشيعية وحدها، مما أدى الى توحّد الطوائف اللبنانية في مواجهتها. ويرى أن فرصة تاريخية لاعتماد استراتيجية تجزئة معقدة للقوى الاجتماعية وعزل للتيارات الراديكالية قد فوّتت. ويوصي روا في نهاية مقاله بضرورة العمل على الفصل بين الحيويتين الصاعدتين في المنطقة، السنية والشيعية، عبر السعي لفك حلف حزب الله وحماس من خلال التفاوض مع الثانية واعتماد سياسة العزل مع الأول.
لا شك في أن روا وأمثاله قد أدهشهم الصمود الأسطوري للمقاومة الإسلامية في مواجهة آلة الحرب الصهيونية، وفي قدرة هذا الصمود على إحياء الأمل بالنهوض مجددا بين جماهير الأمة. هذا الأمل الذي سعوا إلى قتله عبر التبشير بموت القومية العربية حيناً وبفشل الإسلام السياسي حيناً آخر.