جيلبير الأشقر *
إن القرار 1701 الذي تبنّاه مجلس الأمن الدولي في 11 آب 2006 لا يرضي على نحو كلي إسرائيل، كما لا يرضي واشنطن، وكذلك حزب الله. هذا لا يعني أنه «عادل ومتوازن» بل هو مجرد تعبير موقت عن مأزق عسكري. لم يكن ممكناً لحزب الله أن يُلحق هزيمة عسكرية كبيرة بإسرائيل، فهذا احتمال مستبعد نظراً لتوازن القوى المتفاوت كما كانت هي حال المقاومة خلال الحرب الفييتنامية التي لم تتمكن من إلحاق هزيمة عسكرية كبيرة بالولايات المتحدة. لكن في المقابل، لم يتمكّن أحد، أو قد يتمكن من إلحاق هزيمة عسكرية كبيرة بحزب الله. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار حزب الله المنتصر السياسي الحقيقي فيما إسرائيل هي الخاسر الحقيقي في حرب اندلعت في 12 تموز ودامت 33 يوماً، علماً أن لا خطاب إيهود أولمرت ولا جورج بوش يمكن أن يغيّرا هذه الحقيقة الواضحة (1).
من أجل إدراك ما هو على المحك، من الضروري تلخيص الأهداف المدعومة أميركياً والتي كانت إسرائيل تسعى لتحقيقها في هجومها على لبنان. كان الهدف المركزي للهجمة الإسرائيلية، بالطبع، تدمير حزب الله. لقد حاولت إسرائيل تحقيق هذا الهدف عبر ثلاث وسائل رئيسيةالوسيلة الأولى تمثلت في توجيه ضربة قاضية لحزب الله من خلال حملة قصف جبانة، عبر التطور الإسرائيلي الهائل وغير المتوازن في استخدام قوة النيران. وقد استهدفت الحملة قطع طرق إمدادات حزب الله وتدمير الكثير من بنيته التحتيّة العسكرية (مخازن الصواريخ، منصّات إطلاق الصواريخ، إلخ..)، والقضاء على عدد كبير من مقاتليه وإنهاءه كلياً باغتيال حسن نصر الله وغيره من قادة الحزب الرئيسيين.
والوسيلة الثانية، هدفت إلى تأليب القاعدة الشعبية الكبيرة لحزب الله في أوساط الشيعة اللبنانيين ضد الحزب الذي تراه إسرائيل مسؤولاً عن مأساة الإسرائيليين. لكن هذا الأمر كان يتطلّب بالتأكيد أن تُلحق إسرائيل كارثة ضخمة بالشيعة اللبنانيين عبر حملة قصف إجراميّة كبيرة تؤدي إلى تدمير القرى وقتل وجرح آلاف المدنيين. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تلجأ فيها إسرائيل إلى هذا النوع من الخدع ــ وهذا ما يمكن اعتباره جريمة حرب نموذجية. فعندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية ناشطة في جنوب لبنان، في ما اتفق على تسميته «فتح لاند» قبل الغزو الإسرائيلي الأول في عام 1978، ألقت إسرائيل وابلاً من القنابل على المنطقة المأهولة في كل مكان ينطلق منه صاروخ واحد على الأراضي الإسرائيلية، بالرغم من أن الصواريخ كانت تنطلق من أراض قاحلة. وقد نجحت تلك الخدعة آنذاك إذ تملكت مجموعات كبيرة من سكان جنوب لبنان مشاعر النفور والاستياء تجاه منظمة التحرير الفلسطينية، وقد ساهم سلوك الفدائيين الفلسطينيين المدمِّر آنذاك، في التبرؤ منهم واعتبار هؤلاء أغراباً. أما الآن، على الرغم من الموقع الجيد لحزب الله في وسط الشيعة اللبنانيين، فقد خيّل لإسرائيل أن بمقدورها تحقيق ما سبق أن نجحت في ممارسته مع منظمة التحرير، لكن برفع منسوب الوحشية في سياسة العقاب الجماعي.أما الوسيلة الثالثة، فتقضي بتعطيل كلي لحياة اللبنانيين وفرض حصار جوي وبحري وبري وصولاً إلى تأليبهم، خصوصاً المجموعات الشيعية، ضد حزب الله وبالتالي إيجاد مناخ سياسي يستدعي تحرك الجيش اللبناني عسكرياً في مواجهة المنظمة الشيعية. لهذا السبب، أعلن المسؤولون الإسرائيليون، في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان، أنهم لا يريدون انتشار أي قوة غير الجيش اللبناني في الجنوب، ورفضوا بصفة خاصة نشر قوة دولية، متجاهلين قوات اليونيفيل الموجودة حالياً في لبنان. كان هذا المشروع في الواقع هو الهدف الذي وضعته واشنطن وباريس منذ عملتا معاً على إصدار قرار مجلس الأمن 1559 في أيلول 2004، هذا القرار الذي يطالب بانسحاب القوات السورية من لبنان وتفكيك الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، أي حزب الله والمنظمات الفلسطينية في مخيمات اللاجئين.
لقد اعتقدت واشنطن انه بمجرّد انسحاب القوات السورية من لبنان، سيكون الجيش اللبناني، الذي تم تجهيزه وتدريبه من البنتاغون خصوصاً، قادراً على تفكيك حزب الله ونزع سلاحه. وبالفعل انسحب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005، لكن ليس بسبب ضغوط واشنطن وباريس بل بسبب الاضطراب السياسي في لبنان والتعبئة الجماعية التي ولّدها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط 2005، فالحريري كان من أقرب المقربين إلى الطبقة السياسية السعودية الحاكمة. ولم يسمح توازن القوى في البلد، في ضوء التظاهرات الجماعية والتظاهرات المضادة، للقوى المتحالفة مع الولايات المتحدة بأن تفرض تسوية مسألة حزب الله بالقوّة. وقد اضطر هؤلاء الحلفاء أيضاً إلى إجراء الانتخابات البرلمانية في أيار 2006 في إطار ائتلاف موسع مع حزب الله، ليُحكم البلد في ما بعد عبر حكومة ائتلافية تضم وزيرين من حزب الله. هذه النتيجة المحبطة دفعت واشنطن إلى منح إسرائيل الضوء الأخضر لبدء تدخلها العسكري في لبنان. ولم تكن تل أبيب بحاجة إلاّ للذريعة المناسبة لبدء عملياتها، وهذا ما وفرته عملية حزب الله على الحدود في 12 تموز.
قياساً بالهدف المركزي والوسائل الثلاث التي وردت سابقاً، يبدو جلياً أن الهجوم الإسرائيلي كان فاشلاً وسافراً. فمن الواضح ان تدمير حزب الله أمر بعيد المنال، إذ احتفظ الحزب بمعظم هيكليته السياسية وقوته العسكرية، واستمتع بترف قصف شمال إسرائيل حتى اللحظة الأخيرة قبل وقف النار صباح الرابع عشر من آب. فلم يخسر الحزب قاعدته الشعبية، التي، بخلاف كل التوقعات، توسعت إلى حد بعيد، لتضم لا اللبنانيين الشيعة فحسب بل غالبية أبناء الطوائف اللبنانية جمعاء، ناهيك عن الشرف الكبير الذي أكسبته هذه الحرب لحزب الله، خصوصاً في المنطقة العربية وباقي أرجاء العالم المسلم. أخيراً وليس آخراً، كل ما جرى قد أدى إلى تغيير حاد في موازين القوى في لبنان في اتجاه معاكس لما كانت واشنطن وتل أبيب تتوقعانه: بدا حزب الله أقوى بكثير، الأمر الذي يخشاه خصومه المعلنون وغير المعلنين، كما أصدقاء أميركا، وكذلك السعودية. وقد وقفت الحكومة اللبنانية إلى جانب حزب الله أثناء هذه الحرب، وجعلت من الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي أولوية لها(2).
لا حاجة للمزيد من الدلائل على الفشل الإسرائيلي السافر: فقراءة سيل التعليقات النقدية من المصادر الإسرائيلية أكثر من كافية. ومن أبرز تلك التعليقات، ما أورده قبل أيام وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه آرينز، الذي كتب تعليقاً في «هآرتس»:
«كانت أمام إيهود أولمرت وعمير بيرتس أيام قليلة من المجد عندما كانا يظنان ان قصف القوات الجوية الإسرائيلية للبنان سيزعزع حزب الله ويحقق النصر لإسرائيل. لكن ما إن استعرت نيران الحرب التي أساؤوا تقديرها، حتى فقدوا نشوة الانتصار تدريجاً. ظلوا يصدّرون المواقف العدوانية، لكنهم بدأوا يبحثون عن مخرج لهم ــ كيف يخلّصون أنفسهم من تغيّر مسار الأحداث بعكس مصلحتهم. لقد تعلقوا بالقشور، وهل من قشور أفضل من مجلس الأمن. لم تعد هناك حاجة لتسجيل نصر عسكريّ على حزب الله. دعوا الأمم المتحدة تعلن وقف إطلاق النار، وفي إمكان أولمرت وبيريتز وليفني أن يعلنوا النصر ببساطة، سواء صدقناهم أم لا.. فالحرب التي قال الزعماء الإسرائيليون انه كان يفترض بها أن تعيد تعزيز قدرة إسرائيل الرادعة، قد قامت خلال شهر واحد بتدميرها»(3).
يقول آرينز الحقيقة: ففيما أثبتت إسرائيل أنها غير قادرة على تحقيق أي من الأهداف التي وضعتها في بداية الحرب، بدأت تبحث عن مخرج. وفي وقت حاولت فيه تعويض أخطائها عبر رفع حدة غضبها الانتقامي والتدميري على لبنان، غيّر رعاتها الأميركيون موقفهم في الأمم المتحدة. وبعد كسب الوقت لمصلحة إسرائيل، لمدة تزيد على ثلاثة أسابيع عبر منع أي محاولة لمناقشة أي قرار دولي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، قرّرت واشنطن مواصلة دعم حرب إسرائيل لكن بالوسائل الديبلوماسية.
وبعد تغيير موقفها، التقت واشنطن من جديد مع باريس حول قضية لبنان. وعبر سعيها لتقاسم الثروات السعودية مع الولايات المتحدة، وبخاصة بيع المعدات العسكرية للحكام السعوديين (4)، تعمد العاصمة الفرنسية دائماً وبانتهازية مطلقة، إلى الوقوف في صف السعوديين كلما ظهرت بعض الاختلافات بين جدول أعمال واشنطن ومخاوف أقدم عملائها الشرق أوسطيين. وقد وفّرت الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان مثل هذه الفرصة لفرنسا: فبمجرد أن أثبت عدوان إسرائيل القاتل انه ضارّ من وجهة نظر العائلة الحاكمة السعودية التي ارتعبت من زعزعة الشرق الأوسط، وهو ما لا يصب في خانة مصالحها، طالب السعوديون بوقف الحرب والبحث عن حلول بديلة.
لقد سارعت باريس إلى الدفاع فوراًً عن هذا الموقف، وتبعتها واشنطن لكن فقط بعد إعطاء العدوان الإسرائيلي مزيداً من الوقت من أجل تحقيق بعض الأهداف التي تحفظ ماء الوجه الإسرائيلي. وقد وُزع مشروع القرار الأول الذي أعدّته العاصمتان الفرنسية والأميركية في أروقة الأمم المتحدة في 5 آب. كانت محاولة سافرة لاعتماد الطرق الديبلوماسية من أجل تحقيق ما تسعى إسرائيل لتحقيقه عسكرياً. وبالرغم من إعلان مشروع القرار عن «دعمه القوي» لسيادة لبنان، فإنه طالب بفتح المطارات والمرافئ اللبنانية لأغراض مدنية بحتة، على يُفرض «حظر دولي على بيع أو تخزين الأسلحة والعتاد العسكري باستثناء ما تسمح به الحكومة»، أو بعبارة أخرى: فرض حصار على حزب الله. لقد أعاد مشروع القرار الأميركي ــ الفرنسي الجديد التأكيد على المطالب الواردة في القرار الدولي 1559، ودعا إلى إصدار قرار إضافي سيفوّض «بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، نشر قوة دولية تابعة للمنظمة الدولية تساند القوات المسلحة اللبنانية والحكومة في توفير بيئة آمنة وتساهم في تنفيذ وقف النار الدائم، وإيجاد الحل الطويل الأمد». هذه الصيغة غامضة جداً لدرجة أنه كان يمكن أن تعني فقط نشر قوة دولية لا تملك الحق في شنّ العمليات العسكرية (الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) من أجل تنفيذ القرار 1559 بالقوة وبالتعاون مع الجيش اللبناني. علاوة على ذلك، لا شيء يفرض على هذه القوّة البقاء في جنوبي نهر الليطاني، وهي المنطقة التي يقضي مشروع القرار بأن تكون خالية من سلاح حزب الله، وقد طالبت بها إسرائيل بعدما فشلت في التخلص من حزب الله في باقي أرجاء لبنان. وهذا يعني أن الهدف من نشر القوة التابعة للأمم المتحدة كان العمل ضد حزب الله في ما تبقى من لبنان.
لم تكن الإنجازات الإسرائيلية على الأرض كافية لتبرير هذا المشروع. لذلك، لم يلق مشروع القرار قبولاً. فقد عارضه حزب الله بقوة شديدة، وأوضح انه لن يقبل بأي قوة دولية غير قوات اليونيفيل المنتشرة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل (الخط الأزرق) منذ عام 1978. وبدعم من الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، أبلغت الحكومة اللبنانية معارضة حزب الله إلى المعنيين وطالبت بإجراء تعديلات على مشروع القرار. ولم يكن لدى واشنطن أي خيار سوى مراجعة المشروع الذي ما كان مجلس الأمن ليتمكن من تمريره بأية حال. وعلاوة على ذلك، أعلن حليف واشنطن الرئيس الفرنسي جاك شيراك ــ الذي من المتوقّع أن تشارك بلاده بفاعلية في القوات الدولية وأن تقودها ــ قبل أسبوعين من انتهاء القتال، أن نشر القوات الدولية مستحيل من دون الاتفاق المسبق مع حزب الله (5).
لذلك، أعيدت مراجعة المسودة والتفاوض حولها، في حين طالبت واشنطن إسرائيل بالتلويح بتنفيذ عملية برية كبرى والمباشرة فعلياً بهذه العملية كورقة ضغط تسمح لواشنطن بالتوصل إلى أفضل اتفاق ممكن من وجهة نظرها. ومن أجل تسهيل الاتفاق على صيغة تؤدي إلى وقف النار الذي أصبح أمراً ملحّاً لأسباب إنسانية، وافق حزب الله على انتشار 15 ألف جندي لبنان جنوبي نهر الليطاني وتليين موقفه العام. وبذلك كان بالإمكان الدفع بالقرار 1701 قدماً داخل مجلس الأمن في 11 آب.
أما التنازل الأساسي الذي قدمته واشنطن وباريس، فكان التخلي عن مشروعهما القاضي بتشكيل قوة متعددة الجنسيات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فبدلاً من ذلك، سمح القرار «بزيادة قوام قوات الأمم المتحدة الموقتة في لبنان إلى حد أقصى قدره 15000 جندي»، بما يعنيه ذلك من تجديد للقوة الدولية الحالية ومضاعفتها. غير أن الخدعة الرئيسية التي تضمّنها القرار تكمن في إعادة تعريف مهمة هذه القوة بما يخوّلها «مساعدة الجيش اللبناني على اتخاذ الخطوات اللازمة» لـ«إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدّات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان». فاليونيفيل تستطيع الآن «اتخاذ جميع ما يلزم من إجراءات في مناطق نشر قواتها، وكما ترتئي، في حدود قدراتها لضمان ألاّ تستخدم منطقة عملياتها للقيام بأنشطة معادية من أي نوع».
حلقة ثانية وأخيرة غداً
* باحث لبناني في العلاقات الدولية