ياسين الحاج صالح
الدول العربية ليست مدعوة إلى تذكر روابط القومية والدين والإقليم مع لبنان كي تتخذ مواقف مبادرة ومعترضة حيال ما يتعرض له البلد الصغير من تدمير إسرائيلي منظم، بل إلى نسيان تلك الروابط. فقد تطورت الدول العربية والعلاقات العربية في اتجاهات تمتنع معها إقامة سياسة عقلانية على الروابط المذكورة. هذا أمر يمكن فهمه. لكنه يغطي على سير علاقات الدول العربية مع المعسكر الأميركي الإسرائيلي في اتجاه يلحق الضرر بالمصالح الشرعية والعقلانية لكل واحدة منها. بعبارة أخرى، يجري انتقال غير مبرر من تعذر قيام سياسة عربية واحدة أو متقاربة لا إلى قيام سياسات متعددة غير متوافقة أو حتى متنافرة، بل إلى سياسات متهافتة وانتحارية، تضير بالدول التي تمارسها، أمنيا وسياسيا ومعنويا. هذا ينطبق بصورة خاصة على مواقف مصر والسعودية إزاء العدوان الإسرائيلي على لبنان. فهاتان دولتان متأثرتان، من كل بد، بما يجري في جوار إقليمها، معنيتان تالياً بمبادرات تحاصر هذا الاشتعال الذي إن لم يمتد إليهما، فستصيبهما تفاعلاته ونتائجه التي يتعذر تقديرها. وليس من التوازن في شيء أن تجتهد الدول هذه في الحد من صعود إيران، بينما لا تبالي بالصعود الإسرائيلي. ورغم أن انتصار حزب الله قد يسبب مشكلات لها لكونه يقوي منافسا على النفوذ الإقليمي هو إيران، تقضي المصلحة أن يؤخذ بالاعتبار مجمل الأخطار التي يمكن أن تصيب الدول المعنية. نسلم من أجل مقتضيات النقاش أن الخطرين متساويان. لم نقل شيئا ولن نقول عن جمهور هذه البلدان وعن اتجاه تعاطفاته وتضامناته. لم نقل شيئا أيضا عن افتقار الدول هذه إلى خطط واستراتيجيات من أجل صعودها هي في مدارج القوة والنفوذ، إقليميا ودوليا، بدلا من الاكتفاء بعرقلة صعود الآخرين. ولا نفترض إلا أن هذه الدول معنية بفرص بقائها على المدى الأبعد، وبأن لا تتدهور مكانتها الدولية والشرق أوسطية.
ليس تفسير هذا السلوك غير العقلاني صعبا: إن معيار سلامة سياسات الدول المعنية وغيرها هو رضى الأميركيين وغضبهم. لكن هل يعقل أن يكون الخوف من الغضب الأميركي والطمع بالرضى الأميركي متقدما على استقرار الدول والتأقلم الفعال مع مشكلات بيئتها السياسية والإقليمية، بل وغرائز البقاء السوية بالذات؟ لا يعقل، لكنه عين الواقع. وقبل أن يكون هذا “خيانة”، وقبل أن يكون ديكتاتورية، هو غير عقلاني، بمعنى أنه لا ينعكس بالنفع على الدول التي تنتهجه، من وجهة نظر استقرارها وتقبل شعوبها، بل هو بالفعل يلحق الضرر بفرصها المستقبلية بل وحظوظها في البقاء.
هذا يقول لنا شيئين. الأول، أن السياسة الأميركية شديدة التطرف، لا ترتضي أقل من ولاء مطلق من “حلفائها” العرب، وتبذل لهم حبا من نوع حب الدببة، الحب الأرعن والغشيم الذي يقتل المحبوب. الثاني، أن أطقم الحكم في الدول المعنية بلغت درجة من انعدام الإرادة الذاتية أنها أضحت لا تتجاسر على مخالفة الأميركيين حتى في ما من شأنه أن ينعكس ضررا على هذه الدول بالذات، وتاليا على الأميركيين أنفسهم. هذا مؤشر على أن خوف هذه الدول وصل حد “الانضباع” (تقول الخرافة إن الضبع يرشق ضحيته ببوله، فـ“ينضبع” هذا من الخوف، ويتبعه مسلوب الإرادة إلى حيث يفترسه الوحش). والانضباع درجة من الخوف غير نادرة فيمن مروا بتجربة التعذيب والسجن. فبعض هؤلاء يتجاوزون الامتثال لأوامر السجان إلى استباق رغباته ونزواته، ويسارعون إلى تلبيتها.
نريد القول إن العلاقة بين دول عربية والأميركيين تشبه علاقة السجان والسجين، السجين الذي يسلبه الخوف إرادته أمام السجان، والذي يجعل من الفوز باستحسان جلاده وتلافي سخطه معيارا لسعادته وشقائه، وخصوصاً بعد ما تعرضت له دول عربية من لعب بأعصابها بعد 11 أيلول 2001. المقارنة مع الاعتقال والتعذيب مفيدة هنا أيضا. فالسجناء الذين ينضبعون أكثر من غيرهم هم الذين ينهارون لخوفهم من التعذيب لا الذين ينهارون تحت التعذيب ذاته. والتعذيب الذي تعرض له نظاما صدام وطالبان، والتهديد بالتعذيب الذي تعرض له غيرهما، كانا كفيلين بإتلاف أعصاب قطبي الاعتدال العربي، اللذين وُضعا لبعض الوقت في زنزانة الدور، بعد الصدمة التي تعرض لها السجان العالمي قبل قرابة سنوات خمس.
المصلحة العقلانية لهذه الدول تقتضي منها إرساء علاقتها بالأميركيين على أسس مختلفة عن العلاقة بين الجلاد والمعتقل. وعلى مدى أبعد بعض الشيء للأميركيين أنفسهم مصلحة في علاقة أقل تطرفا وإرهابا مع معتدليهم العرب. فتمكين هذه الدول من الوقوف على قدميها، وحيازة درجة من الاستقلال السياسي والأمني والمعنوي، هو ما يقطع الطريق على تحولها إلى “دول فاشلة” في المستقبل، وما يمنع استيطان الإرهاب فيها. هذا ما يمــــليه تفكير سياسي بسيط، لا يحتاج إلى مراكز دراسات استراتيجية ولا إلى جيوش من المســـتـــــشارين والخــــبراء، ولا إلى أجهزة أمن وجيوش تكـــــلف المليارات. يكــــفــــي كــــسر أغـــــلالنا النفسية، والتحرر من وهم أن الأميركيين يعرفون ما هو الصحيح، أنهم معصومون واتّباعهم هو الذي يؤمن من خوف. ليس في هذه المقاربة أي غلو من جانبنا. فلم نقل كلمة واحدة عن العروبة وعن الديموقراطية وعن مقاومة التحكم الاستعماري... كل ما هنالك أننا لا نعتبر الأقوياء عقلانيين بالضرورة، دع عنك أن نعتبرهم معيارا للعقلانية.
يبقى أن هناك كثيرا من الأسرار التي لا نعرفها في علاقة الأطراف العربية المشار إليها، وغيرها، بالأميركيين. لا يرتد الأمر في ما نرجح إلى خوف مجرد منبثق من فارق القوة بين الطرفين، وليس مبعثه الأرجح تحذيرات ورسائل أميركية معلنة وخفية وجهت لأهل “الاعتدال” العربي بعد 11 أيلول 2001، ولا حتى ضمان الأميركيين لأمن هذه الدول الداخلي. هلع الحكومات هذه ملموس اكثر، مكوّن من تفاصيل شيطانية لا تحصى، من الخوف والشهوة والجشع... وخصوصاً من “مؤامرات” لا تحيط بها مخيلة “نظرية المؤامرة” على خصوبتها. ونكاد نجزم بأن تاريخ “الشرق الأوسط” مصنوع من أشياء كهذه، تفلت عادة من تحليلاتنا العقلانية. ربما لذلك، لا لغيره، نبدو كمن يتلمس دربه في الظلام ونحن نتحدث عن أوطاننا.
* كاتب سوري