جيلبير الأشقر *غير ان الواقع انه إذا ما دمجنا الصيغتين السابقتين فإنهما تشكلان نصاً قريباً جداً من المهمة التي يوردها الفصل السابع، أو على الأقل يمكن تفسيرها على هذا النحو. بالإضافة إلى ذلك، فإن القرار 1701 وسّع نطاق مهمات اليونيفيل إلى خارج مناطق انتشارها كي تتمكن من «مساعدة حكومة لبنان بناء على طلبها» في جهودها لـ«تأمين حدوده (لبنان) وغيرها من نقاط الدخول لمنع دخول الأسلحة أو ما يتصل بها من عتاد إلى لبنان من دون موافقتها» ــ ليس المقصود من هذه العبارة حدود لبنان مع إسرائيل بل حدوده مع سوريا التي تمتد على طول البلاد من الشمال إلى الجنوب.
هذه هي الفخاخ الرئيسية في القرار 1701 التي لا تكمن في النص المتعلق بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي تمحورت معظم التعليقات حوله، لأن انسحاب إسرائيل مرتبط بالقوة الرادعة لحزب الله لا بقرار الأمم المتحدة.
لقد قرّر حزب الله منح الضوء الأخضر للحكومة اللبنانية لتوافق على القرار 1701. فقد ألقى حسن نصر الله خطاباً في 12 آب أعلن خلاله قرار حزبه الموافقة على الانتشار العسكري الذي طرحته الأمم المتحدة. وقد تضمّن هذا الخطاب تقويماً للوضع أكثر اتزاناً من خطاباته السابقة، واتسم بدرجة عالية من الحكمة السياسية. «اليوم، قال نصر الله، نحن أمام النتائج الطبيعية المعقولة والممكنة للصمود الكبير الذي عبّر عنه اللبنانيون من خلال المواقع المختلفة». هذا الاتزان كان ضرورياً، لأن أي ادعاء متبجح بالنصر ــ مثل الذي عبر عنه على نحو رخيص داعمو حزب الله في طهران ودمشق ــ كان سيتطلب من نصر الله أن يضيف، كما فعل الملك اليوناني برّيس Pyrrhus: «نصر آخر كهذا وأعتبر نفسي منتهياً». غير أن زعيم حزب الله رفض بحكمة، ووضوح، الدخول في سجال حول قراءة نتائج الحرب، مشدداً على أن «أولويتنا الحقيقية» تكمن في وقف العدوان واستعادة الأرض المحتلة و«تحقيق الأمن والاستقرار في بلدنا، وعودة المهجرين والنازحين».
لقد حدد نصر الله الموقف العملي لحزبه كما يلي: الالتزام بوقف النار، التعاون الكامل مع «كلّ ما يمكن أن يسهّل عودة أهلنا النازحين والمهجّرين إلى ديارهم، وإلى بيوتهم، وكلّ ما يمكن أن يسهّل الأعمال الانسانية والإغاثية». وفي الوقت نفسه، أعرب نصر الله عن استعداد حزبه لمواصلة نضاله المشروع ضد الجيش الإسرائيلي إذا ما بقي جندي واحد على الأرض اللبنانية، غير أنه دعا إلى احترام تفاهم نيسان 1996 الذي بموجبه يجري حصر العمليات على الجانبين اللبناني والإسرائيلي بالأهداف العسكرية ويتم خلالها تحييد المدنيين. وفي هذا الصدد، شدد نصر الله على ان حزبه عمد إلى قصف شمال إسرائيل ردّاً على الغارات الإسرائيلية على لبنان بعد 12 تموز، لافتاً إلى ان إسرائيل هي التي يجب أن تلام لأن حربها استهدفت المدنيين بالدرجة الأولى.
لقد اتخذ نصر الله موقفاً من القرار 1701 أفضل ما يمكن القول فيه أنه موافقة على القرار مع الكثير من التحفظات بانتظار التحقق من ذلك عبر التطبيق العملي. فقد أعرب نصر الله عن احتجاجه على ظلم القرار الذي يمتنع في مقدمته عن إدانة العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب الإسرائيلية، غير أنه أضاف ان القرار كان سيتضمن أموراً أسوأ بكثير لولا الجهود الديبلوماسية التي منعت ذلك، معرباً عن تقديره لهذه الجهود.
ان النقطة الرئيسة في كلام نصر الله كانت تشديده على حقيقة أن حزب الله يرى أن بعض المسائل التي يتطرق إليها القرار هي شؤون لبنانية داخلية يجب أن تناقش وتعالج من اللبنانيين أنفسهم ــ بالإضافة إلى تسليطه الضوء على الوحدة الوطنية اللبنانية والتضامن الشعبي.
إن موقف نصر الله هذا يعدّ الأكثر صحة على الإطلاق في هذه الظروف، فقد كان المطلوب من حزب الله تقديم تنازلات لتسهيل عملية إنهاء الحرب. وبما أن لبنان كله وقع رهينة بيد إسرائيل، فإن أي موقف غير حكيم كان سيترك تداعيات إنسانية مرعبة تضاف إلى النتائج السيئة للغضب الإسرائيلي التدميري والإجرامي. لذلك، أدرك حزب الله جيداً أن المسألة الأهم ليست مضمون قرار مجلس الأمن بحد ذاته، بل تكمن الأهمية في التفسير والتطبيق، لذلك فإن الأساس مرتبط بموازين القوى وبالوضع على الأرض. أما ادعاء جورج بوش وإيهود أولمرت بإحراز النصر الذي كان من المفترض أن يتجسد في القرار 1701، فيضطرني إلى إيراد مقطع من المقالة التي ذكرناها سابقاً للوزير الإسرائيلي السابق موشيه آرينز والتي تتضمن نوعاً من الرد الاستباقي:
«ان الخطاب المناسب بدأ يتلاشى. فماذا لو رأى العالم أجمع أن هذا الترتيب الديبلوماسي ــ الذي وافقت عليه إسرائيل خلال تلقّيها جرعات يومية من صواريخ حزب الله ــ هو هزيمة تتكبدها إسرائيل على أيدي بضعة آلاف من مقاتلي حزب الله؟ وماذا إذا لم يصدق أحد أن قوة اليونيفيل المعززة ستنزع سلاح حزب الله. وأن هذا الحزب الذي ما زال يملك آلاف الصواريخ في ترسانته، والذي سيتعزز موقعه بفعل النجاح الذي حققه هذا الشهر على جبروت قوات الدفاع الإسرائيلية، هذا الحزب سيتحول إلى شريك في السلام؟».
ان الاستمرار الفعلي للحرب بأساليب أخرى قد بدأت تلوح علاماته في لبنان. فثمة أربع مسائل رئيسية طرحت للتداول سنوردها وإن بترتيب معاكس لأولوياتها. المسألة الأولى، على المستوى اللبناني الداخلي، هي مصير الحكومة. فالأكثرية البرلمانية الحالية نتجت من انتخابات فاسدة بفعل قانون انتخابي مشوّه كان قد فرضه النظام السابق الذي كان خاضعاً للهيمنة السورية. ومن تداعيات هذه الانتخابات الخلل الذي شاب التمثيل المسيحي، حيث لم يحصل الجنرال ميشال عون على نسبة التمثيل المطلوبة، علماً أنه دخل في تحالف مع حزب الله بعد الانتخابات.
بالإضافة إلى ذلك، أثّرت الحرب الأخيرة سلباً وعميقاً في المزاج السياسي للشعب اللبناني، كما أن صدقية الأكثرية النيابية الحالية أصبحت موضوع جدل على نطاق واسع.
بالطبع إن أي تغيير في الحكومة لمصلحة حزب الله وحلفائه من شأنه أن يغير جذرياً معنى القرار 1701، إذ ان تفسير هذا القرار يعتمد كثيراً على موقف الحكومة اللبنانية. إلاّ أن مصدر القلق الرئيسي في هذا الصدد هو كيفية تفادي أي انزلاق نحو حرب أهلية متجددة في لبنان: هذا تحديداً ما تبادر إلى ذهن حسن نصر الله حين شدّد على أهمية الوحدة الوطنية.
المسألة الثانية، على المستوى الداخلي اللبناني أيضاً، هي جهود إعادة الإعمار. فالحريري وداعموه السعوديون كانوا قد بنوا نفوذهم السياسي في لبنان عبر السيطرة على عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب اللبنانية التي دامت 15 عاماً وانتهت في العام 1990. غير أن هؤلاء سيواجهون اليوم منافسة شديدة من حزب الله الذي تقف وراءه إيران ويستفيد من علاقته الوثيقة بالشيعة في لبنان الذين مثّلوا الهدف الأول لحرب إسرائيل الثأرية. وقد كتب المحلل العسكري الإسرائيلي البارز في صحيفة «هآرتس» زئيف شيف أن «الكثير أيضاً يعتمد على الطرف الذي سيساعد في عملية إعادة إعمار جنوب لبنا. إذا كان حزب الله هو من سيقوم بذلك، فهذا يعني أن الشيعة في الجنوب سيكونون مدينين لطهران. وهذا ما يجب تفاديه» (6).
هذه الرسالة تلقّتها إسرائيل بصوت عالٍ وواضح من جانب واشنطن والرياض وبيروت، كما أن مقالات بارزة في الصحافة الأميركية حذّرت من ذلك.
المسألة الثالثة، هي بالتأكيد نزع سلاح حزب الله في منطقة غير محدودة في جنوب لبنان حيث سينتشر الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل. والحقيقة أن أقصى ما يمكن أن يقدمه حزب الله في هذا الصدد هو إخفاء أسلحته في جنوبي نهر الليطاني، مما يعني التوقف عن إظهاره هذه الأسلحة وتخزينها في مخابئ سرية. لذلك فإن أية خطوة تتعدى ذلك، من دون أن نذكر اتجاهاً لبنانياً لنزع شامل لأسلحة حزب الله، مرتبطة بالنسبة إلى المنظمة بسلّة من الشروط التي تبدأ بتحرير مزارع شبعا المحتلة عام 1967 وتنتهي بقيام حكومة وجيش قادرين ومصممين على الدفاع عن سيادة البلاد في مواجهة إسرائيل. من هنا فإن هذه المسألة تعدّ المشكلة الرئيسة التي قد تعرقل تطبيق القرار 1701 لأن ما من دولة على وجه الأرض مستعدة لنزع سلاح حزب الله بالقوة، وهي مهمة أخفق في تحقيقها أكثر الجيوش تطوراً في الشرق الأوسط وإحدى القوى العسكرية الكبرى في العالم. وهذا يعني أن أي انتشار جنوبي الليطاني، سواء للجيش اللبناني أو للقوة الدولية، سيقبل بعرض حزب الله هذا مع أو من دون خداع.
أما المسألة الرابعة، فهي مسألة تشكيلة قوات اليونيفيل الجديدة ومدى تصميمها على القيام بواجبها. وقد كانت خطة واشنطن وباريس الأصلية تقضي بأن يتكرر في لبنان ما يجري في أفغانستان حيث تقوم قوات حلف شمالي الأطلسي، التي تستتر بورقة تين الأمم المتحدة، بشن حرب واشنطن. لكن صمود حزب الله على المستويين العسكري والسياسي أحبط هذه الخطة. فالعاصمتان الفرنسية والأميركية اعتقدتا أنهما قادرتان على تنفيذ خطتهما لكن بصيغة مبطنة وتدريجية، إلى أن تلائم الظروف اللبنانية قوات حلف شمالي الأطلسي (الناتو) وحلفائهما المحليين لمواجهة حزب الله. والحقيقة هي أن الدول التي كان من المتوقع أن ترسل العناصر الأساسية هي أعضاء حلف شمالي الأطلسي. لكن ــ كما فرنسا ــ ما زالت كل من إيطاليا وتركيا تبحثان في هذا الأمر، في حين أن ألمانيا وإسبانيا اضطرتا للموافقة على إرسال قوات. لكن لا يمكن خداع حزب الله الذي شرع في إقناع فرنسا بالعدول عن تنفيذ خطتها الرامية إلى إرسال نخبة قواتها القتالية والاكتفاء بحاملة الطائرات الفرنسية الوحيدة القريبة من الشواطئ اللبنانية على البحر المتوسط.
وفي المسألة الأخيرة، في إمكان الحركات المناهضة للحرب داخل دول الناتو أن تساعد كثيراً في دعم نضال المقاومة الوطنية اللبنانية، ودفع السلام في لبنان قدماً عبر التعبئة ضد نشر قوات حلف شمالي الأطلسي، وبالتالي المساهمة في منع حكوماتها من محاولة القيام بالأعمال القذرة التي تقوم بها واشنطن وتل أبيب. فما يحتاج إليه لبنان هو وجود قوات حفظ سلام حيادية على حدوده الجنوبية، وفوق كل ذلك إنه في حاجة إلى أن يُسمح لشعبه بأن يعالج مشاكله الداخلية عبر الوسائل السياسية السلمية. أما الطرق الأخرى فتسبب اندلاع حرب أهلية لبنانية من جديد في وقت يعيش فيه الشرق الأوسط والعالم بأسره أوقاتاً عصيبة بسبب الحرب الأهلية التي أشعلتها الولايات المتحدة في العراق وعمدت إلى تغذيتها.
ملاحظات
(1)ـ للمزيد من المعلومات حول التداعيات الإقليمية والدولية لهذه الأحداث، راجع إحدى مقالاتي السابقة «غرق السفينة الإمبريالية الأميركية» المنشورة في موقع زد. نت، 7 آب 2006.
(2)ـ كما سبق لأحد المراقبين الإسرائيليين في مقالة تحت عنوان «كان من الخطأ أن نقتنع بأن الضغط العسكري قد يولّد مساراً يدفع الحكومة اللبنانية إلى نزع سلاح حزب الله»، إفراييم إنبار، «استعدوا للجولة المقبلة»، جيروزاليم بوست، 15 آب 2006.
(3)ـ موشيه آرينز، «دعوا الشيطان يستيقظ غداً»، هآرتس، 13 آب 2006.
(4)ـ وقعت كل من الولايات المتحدة وفرنسا صفقات أسلحة مع السعوديين في تموز.
(5)ـ مقابلة مع «لوموند» الفرنسية، 22 تموز 2006.
(6)ـ زئيف شيف، «اشتباكات دفاعية مؤجلة ذات جدول زمني دبلوماسي»، هآرتس، 13 آب 2006.
(الجزء الثاني والأخير)
* باحث لبناني في العلاقات الدولية