عبد الإله بلقزيز *
عربٌ أطاعوا رُومهم / عربٌ وباعوا روحهم / عربٌ وضاعوا
«مديح الظلّ العالي» . محمود درويش
لم تكن الحرب الاسرائيلية ــ الأميركية على لبنان العامل الذي أطلق هذه الحالة من الاستقطاب السياسي الحاد الذي يشهده النظام العربي الرسمي، لكنها أخذته الى حدود بعيدة في حدّة الاصطفاف الداخلي بين معسكرين وموقفين. كان هذا الاستقطاب سمة رئيسية في يوميات النظام العربي منذ ميلاده المؤسسي قبل ستين سنة، وعلى وجه التحديد منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. إذ ظل تاريخه تاريخ انقسام وتقاطب: في «حلف بغداد» والمعركة الناصرية ضدّه، حيال أحداث الحرب في لبنان عام 1958، حيال ثورة 14 يوليو في العراق (1958)، حيال الوحدة المصرية ــ السورية قياماً وانفراطاً (1958 ــ 1961)، حيال الثورة في اليمن والصراع المصري ــ السعودي عليها، ثم زاد حدّة بعد حرب عام 67 في مناسبات مختلفة: الموقف من العمل الفدائي الفلسطيني في الأردن وفي لبنان، الموقف من الحرب الأهلية اللبنانية والتدخل السوري، الموقف من القرار 242 في القمة العربية في «فاس»(الأولى)، الموقف من التسوية السياسية للأزمة اللبنانية قبل «اتفاق الطائف»، الموقف من الحرب العراقية ــ الإيرانية في سنوات الثمانينيات، ثم لم يلبث أن بلغ ذراه مع «أزمة الكويت» والعدوان الأطلسي على العراق في مطلع عام 1991 حتى الآن، مروراً بالخلاف على «اتفاق أوسلو» و«اتفاق وادي عربة»، وعملية التطبيع مع الدولة العبرية، والحرب الأميركية على «الإرهاب» وغزو العراق واحتلاله.إذا كان من إضافة أضافتها الغزوة الصهيونية ــ الأميركية للبنان الى هذا الاستقطاب، فهي أنها أتت مناسبة لتظهيره على نحو فاقع وكشفت المكنون من مفارقاته كما لم تفعل ذلك أزمة قبلاً. ومن أبده ما يمكن أن نستبدهه أن هذه الحرب، المرتدة نتائج الى نحر اسرائيل وموضعتها، لن تكون آخر «نازلة» ينقسم حولها الفقه السياسي للنظام العربي فينتج ما لا حصر له من الفتاوى حولها.
من النافل القول إن مشكلة هذا النظام العربي الرسمي مشكلة بنيوية بداءةً، أي تتغذّى من بنية النظام نفسه الذي يعيد إنتاج بنى الدولة والسلطة وانحيازات نخبها داخل إطاره المؤسسي والسياسي. نحن ــ هنا ــ لسنا أمام منظومة إقليمية محكومة بالتشابه في البنى والخيارات مثل الاتحاد الأوروبي أو مجموعة «النافتا» أو «الآسيان»، وإنما نحن إزاء رابطة فسيفسائية تجمع في تضاعيفها ما ليس يقبل الجمع: دول ودويلات وأشباه دويلات، أنظمة يحكمها العسكر وأخرى يحكمها رؤساء العشائر وزعماء الطوائف، محميات سياسية خارجية ودول تحاول أن تحفظ استقلالاً، دول يرفل «مواطنوها» في نعيم البذخ وأخرى يبحث صعاليكها عن الطعام في صناديق القُمامة، دول تشهد حياة حزبية ونيابية ويرتفع فيها صوت المعارضة وأخرى تحسب السياسة شأناً خاصاً بـ«الخلفاء» وتحسب المعارضة فعلاً من أفعال الإثم والكبائر! لا يجمع بين أمشاج هذا الأرخبيل العربي الفسيفسائي الذي اسمه «النظام الإقليمي العربي» ــ وليعذرنا في التحفظ على التسمية صديقنا الأستاذ جميل مطر ــ سوى علاقة بينية مغشوشة ومكذوبة هي «التضامن العربي»: الذي أطعمتنا إياه مطابخ النظام العربي الى حدود جاوزت الشبع الى الرغبة الطبيعية في التقيّؤ والاستفراغ! من لا يعرف كثيراً عن هذا «التضامن العربي» فليعلم أنه الاسم الحركي (=المستعار) للانقسام العربي. أما المؤمنون به، أو المخدوعون الساقطون في حبائله، فدعهم في غيّهم يعمهون. إنه، في أفضل أحوال الظن به، شيء قريب مما يمكن حسبانه هندسة سياسية لنظام عربي مشروخ مصروفةً الى أداء وظيفة إدارة تناقضاته الفضائحية على نحو يمنعها من التعبير عن نفسها في صورة حرب أهلية عربية رسمية بين داحس والغبراء. وما تبقّى هباء...
ينقسم العالم العربي اليوم الى معسكرين: معسكر المقاومة والممانعة، ومعسكر التغطية على العدوان بـ«واقعية» ترفع الغطاء عن الأول بتعلّة أنه يخوض في «مغامرة غير محسوبة». ليس المعسكر الأول رسمياً تماماً لأن الرسمي فيه قليل (سوريا وبعض النظام اللبناني وبعض السلطة الفلسطينية) والشعبي فيه أكثر (المقاومة اللبنانية، المقاومة الفلسطينية، القوى الوطنية والإسلامية العربية، «الشارع» العربي). أما الثاني، فرسمي تماماً والحمد لله وليس له من سند شعبي إلاّ ما يزعمه في إعلامه الباهت والمبحوح. المعسكر الأول قوي بذاته على ضعف له في الأدوات، والثاني «قوي» بخارج يجنّده ويفرض عليه الإملاءات.
وربّ قائل يقول إن معسكر الرافضين العرب مسنود من خارج الوطن العربي: من إيران. لست متأكداً إن كانت حاجته الى ممارسة فعل الممانعة والمقاومة رهناً بمساندة إيران، فالذي أعلمه أنه مانع وقاوم لعقود قبل أن تقوم ثورة إيران في عام 1979. ولكن، مَنْ ذا الذي ينفي أن معسكر المذعنين مدعوم من أميركا (=وهي ليست مسلمة أو صديقة كما إيران)، بل مؤتمر بإمرتها غير خجل من «الشراكة» معها في حماية حدود رضيعها الاسرائيلي ولو من باب النيل الجهير من شرعية المقاومة؟! وإذا كان من جديد جدّ في مشهد الاستقطاب العربي هذه الأيام، بمناسبة العدوان الصهيوني المدحور على لبنان، فهو أنه بدا في صورة انقسام بين معسكرين وموقفين على تقدير الأخطار والأولويات وعلى نمط جدول أعمال كل من الفريقين. فالمعسكر المتبرّم بالمقاومة ربما ــ ليته كان أقل غلظة وخشونة واحتداداً في مفرداته ــ مهجوس منذ فترة بهاجس واحد وحيد يتردد في كل مناسبة: الخطر الإيراني (وقد تزايدت المخاوف منه من معاينة ما يجري في العراق منذ احتلاله قبل أربعين شهراً). لكنه يدفع بهواجسه الى حدّ الحديث عن «الخطر الشيعي» غير ملتفت الى أن هذا الضرب من التعيين للأخطار إنما ينقل المعركة الى الداخل العربي نفسه! أما المعسكر الثاني، فمفرداته سياسية ووطنية وقومية غير مذهبية: الخطر الوحيد هو الخطر الصهيوني. ولقد التقى الجمعان في لبنان: واحدهما يوجّه سهامه السياسية الى «الشيعة»، والثاني يوجّه بنادقه الى العدو الحقيقي الذي لا يزيغ عن محجة إدراكه البيضاء إلا هالك. وبعد، ضرب لبنان زلزالٌ تصدّعت له أركان النظام العربي فاحتيج الى ترميم المشروخ منه بجمعين فولكلوريين لـ«الديبلوماسية» العربية: أولهما انعقد في مقر «الجامعة» العربية في القاهرة، وثانيهما طلب إذناً من اسرائيل كي ينعقد في لبنان! في الجمع الأول نعى السيد عمرو موسى «عملية السلام». وفي الجمع الثاني قالت المقاومة للسياسة العربية: عليكِ السلام.
* أستاذ جامعي ــ المغرب