ألان غريش *
لكل الذين لم ينتبهوا، لقد أثبتت تطورات الأسابيع الأخيرة في الشرق الأوسط أن ثمة تحوّلاً طرأ على السياسة الفرنسية. وعلى رغم أن هذا التحول ليس كاملاً بعد، إلاّ أنه يمكن ملاحظة نوع من الانقطاع عن السياسة التقليدية الباريسية التي وضع أساسها الجنرال شارل ديغول. غير أن هذا لا يعني أن هناك اصطفافاً فرنسياً كاملاً ضد الولايات المتحدة أو تخلّياً عن الخطاب الفرنسي المستقل وإنما أظهرت الأحداث في كل من فلسطين ولبنان أن ثمة تنسيقاً وثيقاً بين فرنسا وواشنطن. وأكدت وجود صعوبة في تحديد توجّه فرنسي مستقل يسمح لباريس، التي تقتصر حركتها أحياناً على الجانب «الإنساني»، بالاضطلاع بأي دور سياسي مستقل.
ولذلك، فإن فرنسا التي أوقفت، تماماً كما الولايات المتحدة، مساعدتها المباشرة للفلسطينيين بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني الماضي، تبحث عن الوسائل المناسبة للتخفيف من معاناة الشعوب التي ساهمت سياستها الخاصة في تدهور أوضاعها. فحتى الآن، كانت فرنسا موافقة (ضمنياً) على تفكيك مؤسسات السلطة الفلسطينية مكتفيةً بإرسال الأموال للحؤول دون تجويع الشعب الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك، ومنذ 28 حزيران تاريخ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة ــ وما رافقه من تدمير للبنى التحتية المدنية واستهداف للمباني السكنية والمؤسسات العامة، لا بل ارتكاب لكل ما يمكن أن يسميه القانون الدولي «جريمة حرب» ــ اكتفت باريس بالدعوة إلى «ضبط النفس» والمطالبة بتحرير الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط «مباشرة ومن دون قيد أو شرط».
أما بالنسبة إلى لبنان، فموقف فرنسا (وأعضاء مجموعة الثماني) لم يسبق له مثيل. فعبر إصرارها على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، تمنح فرنسا العملية الإسرائيلية المبرّر حينما تعمل على إظهار أن ما من هدف من ورائها سوى إطلاق الجنديين الإسرائيليين اللذين أُسرا خلال عملية حزب الله العسكرية الأخيرة. وإن باريس عبر تركيزها على الطابع «غير المتكافئ» للهجوم الإسرائيلي من جهة تجد له الأعذار السياسية من جهة أخرى حين تؤكد أن الأولوية لدى إسرائيل هي إطلاق أسيريها من دون أي شروط. علماً بأن باريس لم تقدم على أي تحرك جدي إلاّ بعد رؤيتها بأمّ العين فظاعة ما لحق بالبنى التحتية في لبنان ــ هذا البلد الذي ترأسه حكومة «صديقة» لفرنسا! فقد انتظرت باريس أسبوعاً كاملاً قبل أن تظهر بعض التمايز في موقفها عن الموقف الأميركي داعيةً إلى وقف فوري لإطلاق النار. ولكن الهدف الاستراتيجي الذي يسعى إليه الجانب الفرنسي هو الانضمام إلى أميركا وإسرائيل لتحقيق هدفهما: نزع سلاح حزب الله، كما لو أن هذا الأخير هو المسبّب الرئيسي لغياب الاستقرار عن منطقة الشرق الأوسط.
في مراحل سابقة، كانت فرنسا تجيد التصرف على المستوى السياسي على نحو مستقل، وهذا ما حصل في ربيع عام 1996 عندما أرسل الرئيس الفرنسي جاك شيراك وزير خارجيته آنذاك هيرفي دو شاريت لتمضية أسبوعين في الشرق الأوسط وقال حينها «لن أغادر المنطقة ما لم يُتوصّل إلى وقف لإطلاق النار واتفاق بين الأطراف المتنازعة». وعلى رغم التحفّظات الأميركية والإسرائيلية، نجحت فرنسا في تلك الآونة في مهمتها واعتُمدت أبرز الاقتراحات الفرنسية في تفاهم 27 نيسان الذي قضى بالحفاظ على حق المقاومة في متابعة نضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وضمان أمن مدن شمال إسرائيل.. وشدد دو شاريت آنذاك على أنه «من أجل إحراز النجاح، لا بد من الانفتاح على الجميع». لقد أجرت فرنسا في حينها اتصالات بكل الأطراف المعنية، بدءاً بسوريا ومروراً بحزب الله وإسرائيل ووصولاً إلى الولايات المتحدة. ولم تكن باريس منحازة إلى أي «معسكر غربي». علماً بأن لجنة مراقبة وقف إطلاق النار كانت تضم كلاً من فرنسا ولبنان والولايات المتحدة وسوريا وإسرائيل.
وعبر رفضها إجراء أية محادثات مع سوريا، بعيداً من حزب الله، تخلّت فرنسا عن موقفها التقليدي «المتوازن»: وقد انضمت إلى «المعسكر الغربي» على رغم الدور الإيجابي الواضح الذي يمكن باريس أن تلعبه في مرحلة «ما بعد الحرب» غير المستقرة التي ترتسم في لبنان.
والملاحظ أن التحول في موقف فرنسا جاء في موازاة التقارب الفرنسي ــ الإسرائيلي الذي تمظهر بزيارة آرييل شارون إلى فرنسا في تموز 2005. ومنذ ذلك الحين، باتت تسوية المشكلة الفلسطينية هي آخر ما يُتطرّق إليه في الحوار بين فرنسا وإسرائيل. لكن باريس ما زالت تحافظ من حيث المبدأ على موقفها القائل بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة، لكنها تحرص على عدم معارضة إسرائيل وإثارة غيظ تل أبيب.
إلى هذا، كانت الحملة الأميركية ــ الإسرائيلية على «فرنسا ــ الدولة المعادية للسامية» منذ عام 2002 قد أرخت بظلالها الثقيلة على باريس. فقد سعى عدد كبير من قادة عدد من الأحزاب السياسية الفرنسية ومسؤوليها إلى التخلّص من هذه الدمغة والحصول على دعم كبريات المنظمات اليهودية الأميركية. فخلال زيارته إلى نيويورك في أيلول عام 2003، رافق الرئيس جاك شيراك ممثلو المنظمات اليهودية الفرنسية للقاء نظرائهم الأميركيين. علماً بأن هذه المنظمات لا تتوانى عن التدخل مباشرة في الشؤون الفرنسية. فقد سبق لـ«اللجنة الأميركية ــ اليهودية» أن نظّمت رحلة لحوالى 20 نائباً فرنسياً إلى إسرائيل، وقد رأس الوفد الفرنسي السيد فرانسوا فيللون وهو المستشار المقرّب من نيكولا ساركوزي. وإثر حوارات مع المشاركين في الرحلة، أوردت وكالة «غويسن إسرائيل نيوز» (Guysen Israel News) في 5 شباط 2006، ما شكّل الصفعة الأقوى: «إسرائيل وفرنسا ــ بصفتهما ديموقراطيتين برلمانيتين ــ تقفان معاً ضد الإسلام».
وفي خطاب له في هرتزليا ــ إسرائيل، في 16 كانون الأول 2004، حيّا وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهو أبرز المرشحين لخلافة الرئيس شيراك، قتال «جنودنا» في المعركة المشتركة في عام 1956، خلال الحملة الاستعمارية على مصر ــ عبد الناصر «لاسترجاع» قناة السويس، وهي معركة استمرت بفضل «أجهزة استخباراتنا..».
لقد مات الجنرال ديغول فعلاً فهو الذي تنبّأ عشية حرب حزيران عام 1967: بأن إسرائيل «ستقيم على الأراضي التي استولت عليها، احتلالاً لن يمر من دون عمليات قمع وعقاب وطرد، مما سيثير مقاومة تنعتها بالإرهابية». وبعد مرور 40 سنة، ها هي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية والجولان جميعها ما زالت مناطق محتلة لكن يبدو أن فرنسا ترى أن غياب الاستقرار عن المنطقة لا ينجم من الاحتلال وإنما من «الإرهاب»...
* صحافي، لوموند ديبلوماتيك، باريس