ماجد عزام *
«لن يكون جدياً في هذه اللحظة الحديث عن خطة الانطواء، أعلم بأن شيئاً جذرياً تغيّر في الأسبوع الأخير وأفهم أن عليّ أن أُلائم الآن سلم أولويات الحكومة مع الواقع المتغير، لا يمكن تجاهل المشكلة الفلسطينية ولكن في هذه اللحظة يقف أمام إسرائيل وأمام حكومة إسرائيل تحدٍّ جبّار: إعادة بناء الشمال، وهذا التحدي سيحتل معظم الاهتمام والمصادر لدى الحكومة». عبر هذه العبارات يؤبّن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت خطة الانطواء «التجميع» أو الانسحاب الأحادي من مناطق واسعة في الضفة الغربية وإعادة تجميع المستوطنين ضمن الكتل الاستيطانية الكبرى داخل حدود الجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة. والحقيقة أن المواقف المستجدة لأولمرت لا تمثّل أكثر من إطلاق رصاصة الرحمة على خطة الانطواء التي ولدت خداجاً ولم ينجح أولمرت في تهيئة الظروف المناسبة لنموها وتطورها إلى أن حدثت العملية النوعية صباح الخامس والعشرين من حزيران في كرم أبو سالم التي أدت إلى أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت، الأمر الذي أعاد قوات الاحتلال إلى قطاع غزة لأول مرة منذ الانسحاب: إعادة الانتشار من هناك أواسط أيلول من العام الماضي. وإذا كان الخامس والعشرين من حزيران بمثابة إعلان الموت السريري لخطة الانطواء فإن الثاني عشر من تموز عندما أسرت المقاومة الإسلامية جنديين اسرائيليين آخرين مثّل إعلاناً رسمياً عن وفاة الخطة كما المفاهيم والانسحابات الأحادية الأخرى، وذلك حدث عندما عاد جيش الاحتلال للاعتداء على لبنان بعد ست سنوات من الانسحاب الأحادي من هناك ولم تكن عبارات أولمرت السالفة الذكر سوى تشييع رسمي للخطة إلى مثواها الأخير واعتراف بالعجز واستحالة تطبيقها. وحتى قبل الخامس والعشرين من حزيران عانت الخطة مصاعب عدة على مستويات مختلفة داخلية وخارجية، إذ لم ينجح أولمرت في إقناع الاسرائيلين بجدواها ولم يتمكّن كزعيم وقائد من حشد التأييد اللازم لها سواء داخل حزبه أو الائتلاف الحاكم، ولم يكن المشهد مختلفاً داخل الكنيست ولا في الشارع الإسرائيلي، فداخل كاديما تعالت أصوات عدة معارضة للخطة وخاصة ممن لم يحصلوا على مقاعد وزارية مرموقة. وزيرة الخارجية تسيبي ليفني شكلت لجنة وضعت توصيات متشائمة من تنفيذ الخطة:
ــ الانسحاب الأحادي قد يهدد الاستقرار في الأردن.
ــ الانسحاب الأحادي إلى حدود الخط الأخضر قد يقلّص حجم مسؤولية إسرائيل عن الضفة، لكنه يشكّل خطراً على أمن إسرائيل وقد يلزمها الانسحاب من الأماكن المقدسة في القدس، وليس أكيداً أن يعترف المجتمع الدولي بهذا الانسحاب.
ــ اقتراح إجلاء المستوطنين من أعماق الضفة مع بقاء الجيش الإسرائيلي فيها سيخفف الاحتكاك لكنه لن يقود إلى اعتراف دولي بإنهاء الاحتلال.
ــ سيعارض المجتمع الدولي أي تسوية تُجهض حل الدولتين للشعبين.
ــ الصورة داخل الائتلاف الحكومي الحاكم لم تبد أفضل حالاً، فشخصيات بارزة داخل حزب العمل الشريك الرئيس تطالب باستئناف المفاوضات مع رئيس السلطة الفلسطينية حتى في ظل وجود حكومة حماس، وتجادل هذه الشخصيات في أنه لا بد من استنفاد كل الفرص والمحاولات مع السلطة قبل التوجّه نحو الخطوات الأحادية، علماً بأن حرب لبنان بنتائجها الكارثية دفعت زعيم حزب العمل ومن أجل التمايز عن أولمرت وكاديما للدعوة العلنية إلى استئناف المفاوضات ليس فقط مع الفلسطينيين وإنما مع السوريين أيضاً.
ــ الشريك الآخر في ائتلاف، أي حزب شاس، اشترط عند دخوله الحكومة أن يتمتع بكامل الاستقلالية والحرية عند عرض الخطة للتصويت، ومعروف بالطبع أن شاس تعارض خطة الانطواء وتعتقد بأنه لا إمكانية فعلية لتنفيذها.
داخل الكنيست لم ينجح إيهود أولمرت في استمالة أي من الأحزاب والكتل السياسية لتأييد الخطة لافتقاره إلى الكاريزما والحيل والتكتيكات السياسية والحزبية التي تكفل له الحصول على تأييد كهذا.
الفترة من آذار تاريخ تشكيل الحكومة الإسرائيلية حتى أواخر حزيران شهدت انهيار الأسس الأمنية والنظرية التي استندت إليها خطة الانطواء ومفهوم فك الارتباط بشكل عام، فقد انهالت صواريخ المقاومة على المدن والمستوطنات الإسرائيلية وخصوصاً سيدروت مدينة وزير الدفاع عمير بيريتس. وعجزت الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية المعتمدة فقط على سلاح الجو عن وقف إطلاق الصواريخ، وحاذر أولمرت الاستخدام المكثّف للقوات البرية حتى لا يقوّض بيديه حيثيات الانطواء التي لحظت أن الخطة ستؤدي إلى تدعيم الأمن الإسرائيلي وتحسّن على المدى البعيد من فرص السلام مع الفلسطينيين. صباح الخامس والعشرين من حزيران دخلت خطة الانطواء مرحلة الموت السريري، فمع تواصل سقوط الصواريخ على المستوطنات وجرأة المقاومة الفلسطينية على أسر الجندي جلعاد شليت اضطر أولمرت للموافقة على إعادة إرسال الجيش إلى غزة مرة أخرى. ومن البديهي أن هذا الأمر جعل خطة الانطواء وأفكارها كأنها لم تكن، وإن التجربة في قطاع غزة لا تشجع حتماً على استنساخها ونقلها إلى الضفة الغربية، وحتى هذا الوقت لم يمتلك أولمرت الشجاعة للاعتراف بأن الخطة قد طواها الزمن. وختاماً، عند صباح الثاني عشر من تموز 2006 ونجاح المقاومة الإسلامية اللبنانية في أسر الجنديين، اتضح بؤس الانسحاب الأحادي من جنوب لبنان وفشله، وعجز هذا الانسحاب عن توفير الأمن للجنود الإسرائيليين أو للمستوطنات الشمالية، وعلى رغم ذلك كابر أولمرت ولم يعترف بسقوط خطة الانطواء في ذروة العدوان على لبنان، وعندما لجأ إلى الخطب والمصطلحات التشرتشلية التي زعم فيها أنه يحقق الانتصار على حزب الله واعتبر أن هذا الانتصار المزعوم وإنجازات الجيش في الحرب ستساعد على تطبيق خطة الانطواء، دفع المشهد والصورة اللذان انتهت إليهما الحرب وأجواء الهزيمة والانكسار التي تخيّم على إسرائيل سواء داخل الجيش أو في الحلبة السياسية أو حتى في وسائل الإعلام، كلها دفعت أولمرت للإقرار بموت خطة الانطواء على اعتبار أن ثمة أولويات أخرى هي إعادة بناء الشمال، وفي هذا اعتراف لا لبس فيه بالهزيمة وإقرار بالعجز عن استعادة قوة الردع التي فُقدت في لبنان واعتُبرت مدماكاً أساسياً في فكرة الانطواء وخطتها. حيثية أخرى تقضي تماماً على فرص تنفيذ خطة الانطواء، هي غياب الساعد الأيمن لإيهود أولمرت ورحيله، ومنظّر خطة الانطواء وزير العدل السابق حاييم رامون الذي سيواجه العدالة بسبب القيام بمخالفات جنائية ذات أبعاد أخلاقية، إضافة إلى أن العديد من وزراء كاديما المؤيدين لأولمرت يواجهون ملفات قضائية مختلفة ستؤثر حتماً على وحدة الحزب وقدرته على تنفيذ البرنامج الذي وعد به ناخبيه.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام