نزار صاغيّة *
بتاريخ 11 آب، قبل ساعات من انعقاد مجلس الأمن، تبنّى مجلس حقوق الانسان للأمم المتحدة في جلسة خاصّة مشروع قرار مشترك قدّمته باكستان عن منظمة المؤتمر الاسلامي وتونس عن دول الجامعة العربية، أبرز بنوده انشاء لجنة تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها اسرائيل ضد المدنيين والمنشآت المدنية في لبنان، علما أن المجلس أضاف اليه فقرة تدعو فرقاء النزاع كافة الى احترام حقوق الانسان وخصوصا قوانين الحرب. وقد صدر القرار بغالبية 27 عضوا (بينهم روسيا والصين) فيما عارضه 11 عضوا (غالبيتهم دول أوروبيّة أبرزها فرنسا والمملكة المتحدة) وامتنع عن التصويت ثمانية. هذا مع العلم أن أعضاء المجلس 53 دولة ينتخبون من بين أعضاء الهيئة العامة للأمم المتحدة على نحو يمثل القارات كافة، الأمر الذي يجعل المجلس بطبيعة الحال محل تأثيرات سياسية. وبمعزل عن أهميّة الحدث –الآيل الى ادانة أمميّة فريدة من نوعها لاسرائيل خلال الحرب السادسة- فقد أثار تجاذبا حقوقيّا عبّرت عنه عدد من المنظّمات الدولية -وبشكل خاص منظمتا «هيومان رايتس واتش» الأميركية و»العفو الدولية»-، على خلفيّة تأثيرات الاعتبارات السياسية لأعمال المجلس، ولا سيما لجهة تجاهله «جرائم الحرب» التي عزتها هذه المنظمات لحزب الله. فمنظمة هيومان رايتس واتش أصدرت في اليوم نفسه -وبشكل غير اعتيادي- بيانين موجهين الى المجلس بلغة لا تخلو من الحدّة: ففي بيانها الأول الصادر قبيل انعقاد الجلسة تحت عنوان «مجلس حقوق الانسان ملزم بحماية المدنيين»، دعت المنظّمة المجلس الى تعديل مشروع القرار بحيث يتضمن ادانة حزب الله الى جانب اسرائيل طالما أنّ الطرفين أخفقا في التمييز بين المقاتلين والمدنيّين. «فأيّ مقاربة منحازة للمجلس لن تقدّم شيئا لضحايا النّزاع انما تؤدّي فقط الى تقويض مصداقيّته!» وتدعيما لهذا الرأي، أظهرت المنظمة ارقاما متوازنة مبنية على تحقيقات ميدانية قامت بها على جانبي الحدود (!): فاسرائيل شنت 5000 غارة جوية مما ادى الى قتل 700 مدنيا في لبنان فيما أطلق حزب الله 2500 صاروخا مما ادى الى مصرع 39 مدنيا في اسرائيل. وقد لاحظت بشأن غارات اسرائيل انها ادت الى ارباح عسكريّة محدودة بالنسبة للأضرار التي تكبدها المدنيون. فيما لاحظت بشأن صواريخ حزب الله انها شكلت انتهاكات منتظمة للقانون الدولي الانسانيّ، بما فيها هجمات متعمّدة وعشوائيّة لأحياء مدنيّة في اسرائيل!
أما بيانها الثاني الصادر مباشرة بعد انفضاض المجلس بعنوان «المجلس فوّت فرصة حماية المدنيين»، فقد جاء مفعما بالغضب. فالمنظّمة اتهمت المجلس بأنه، بانحيازه، اخلّ بمسؤوليّاته مما ادّى الى تقويض مصداقيته، واصفة القرار بأنه سياسيّ! لتعود من ثمّ الى وصف اعمال حزب الله متهمة اياه انه اطلق 3500 صاروخا على الأقل (أي بزيادة ألف صاروخ عن العدد الوارد في بيانها الصباحي) وانه يخزن اسلحة على مقربة من الأحياء المدنية (وهي تهمة تمت اضافتها مساء)! وقد خلصت الى القول ان هذا الانحياز يؤدي حكما الى تجريد لجنة التحقيق التي أوصى المجلس بانشائها من المصداقية، بل ايضا من الفعالية طالما انه يصعب كسب تعاون الطرف المتضرر من التحيز (أي اسرائيل) او حتى احترامه لنتائج التحقيق! لا بل هي ذهبت الى حد انتقاد –ليس فقط الدول التي وافقت على مضمون القرار أو امتنعت عن التصويت- انما ايضا الدول التي صوتت ضد القرار كفرنسا والمملكة المتحدة (وهما بالمناسبة عضوان في مجلس الأمن) على أساس أنها لم تبذل أي جهد جدّي في اتجاه تعديل صيغة القرار! وهكذا، بدت المنظمة بوتيرة بياناتها وبتوسيع دائرة الاحتجاج وكأنها تعبّر عن استهجان ضد عمل مقزّز!!
لا بل هي ذهبت الى حدّ استعمال عبارات غير لائقة بحق حزب الله متهمة اياه بارتكاب انتهاكات اجراميةabuses murderous و بقصف المدنيين عمدا فيما أنها اكتفت في البيان نفسه بالقول بأنّ اسرائيل أخفقت في التمييز بين المدنيين والمقاتلين وأنها أثبتت بتحقيقاتها أنه يصعب تبرير مقتل 150 مدنيا في لبنان بأي هدف عسكري!
والواقع أن تنديدها بأعمال مجلس حقوق الانسان لقي ما يناقضه تماما في صمت المنظمتين ازاء اللاتوازن في قرار مجلس الأمن 1701 الصادر في اليوم نفسه ولا سيما لجهة الايحاء بأن حزب الله مسؤول عن الحرب وبأن لاسرائيل وحدها حقّ الردّ على الاعتداءات أو بكلام آخر حقّ الدفاع عن النّفس(!!). فكأنما «الحياديّة الحقوقيّة» لهاتين المنظمتين تتطلّب «التّوازن» أمام المجالس الحقوقيّة فقط فيما تتفهّم أن يكون للهيئات ذات الطّابع السياسيّ (كما هو حال مجلس الأمن) حريّة اللاتوازن، رغم علمها بما لمقرراتها من تأثير فعلي على أرض الواقع. وأقلّ ما يمكن قوله أنّ خيارات مماثلة تؤدّي –عن قصد أو غير قصد- الى اقرار ذوي القوّة بما غنموه في حلبات «الحرب» و»كواليس الضّغط الدبلوماسيّ» مع اظهار الظالم والمظلوم بفعل التوازن على الصعيد الأخلاقي مظهرا متساويا تصعب معه حتى المساءلة! وبالطبع، يكفي تحقيقا لذلك الايحاء بأن كلا الفريقين ارتكب انتهاكا لقاعدة عامة بمعزل عن خطورة الانتهاك. ومن هذا المنظار، وبمعزل عن مدى تسييس مجلس حقوق الانسان (وهو أمر واقع)، يؤدي «التوازن» في مقاربة الفاعلين الى جمع الانتهاكات الكبرى بالانتهاكات الصغرى التي قد تكون ردود فعل عليها في سلة واحدة، مما يناقض عدالة «الميزان» ويشكل حكما مظهرا مخادعا تعمد أو أقله ستعمد عاجلا أم آجلا طروحات الاستقواء والظلم على استغلاله. وأسوأ ما في الأمر، أنّ منظمة هيومان رايتس واتش لم تكتف بالتنديد بانتقائية القرار، انما ذهبت الى حدّ الادعاء بأنّ التّحقيق في جرائم اسرائيل وحدها لا يفيد المدنيين بشيء وهي بذلك ناقضت منظمة العفو الدولية التي هي رحبت بقرار التحقيق الى جانب التنديد بطابعه الانتقائي!! فكأنما هيومان رايتس واتش تعلن: «امّا أن يحمى المدنيّون وينصفون على جانبي الحدود (وهذا ما تدعو اليه) والا فلا فائدة ترتجى من فتح تحقيقات في مجازر قانا ومروحين والدّوير والبيّاضة والقاع والشيّاح والغازيّة»، علما أن بيانها صدر فيما المجازر الاسرائيليّة كانت ما تزال قائمة على قدم وساق! والواقع أن حجج المنظمة في هذا الصدد تقارب الى حد ما حجج حزب الله: فأن تندّد المنظمة بحماية المدنيين في لبنان بهدف ضمان حماية المدنيين على جانبي الحدود يشبه اعراض حزب الله عن ضمان أمن المدنيين في اسرائيل سعيا الى ضمان امن المدنيين على جانبي الحدود، مع فارقين أساسيين: أولهما أنّ المنظّمة تدافع عن حقوق المدنيين في الجانب الأقوى الذي لديه أصلا ألف وسيلة ووسيلة لحماية مدنييه وثانيهما أن المنظمة تريد المساواة في النصوص والتحقيقات والأحكام فيما حزب الله يجهد لتكريسها على أرض الواقع تيّمنا بسابقة تفاهم نيسان 1996! ولهذه الاعتبارات او لبعضها ربما، دعا «مركز الديمقراطية وحكم القانون» (اللبناني) الى توقيع عريضة ترفض مشاركة الدّول التي صوتّت ضد قرار مجلس حقوق الانسان (ومنها فرنسا) ضمن قوى حفظ السلام في الجنوب. «فبرفضها قرار التحقيق في المجازر المروعة في لبنان (بحجة أنه غير متوازن)، أخفقت هذه الدول في التمييز ما بين الخطأ والصّواب»!
* محام لبناني